بصرُه حديد أو يُحشر أعمى؟

شبهة مسيحي:

ورد في القرآن في سورة ق: ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(1) أي في يوم القيامة. وذلك يُناقض ما في سورة من حم عسق: ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾(2). وهما تناقضان ماورد في سورة طه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾(3) وما ورد فيها أيضاً: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾(4).

 

الجواب:

الكلام في ثلاثة محاور:

المحور الأول: في قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾:

معنى العمى في الآية الكريمة:

ليس المُرادُ من العمى في قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ هو فقْدَ القدرة على الإبصار والنظر إلى المحسوسات بل المُراد من العمى في الآية المباركة هو الحيرة التي يفقدُ معها الإنسان القدرةَ على تمييز الطريق الذي يقوده إلى مقصده أو إلى نجاته، وهي كثيراً ما تقع نتيجةَ مفاجئةِ أمرٍ مهولٍ لم يكن محتَسباً، فهو حينئذ ينتابُه الذهول، فلا يدري أيَّ طريقٍ يسلك لينجوَ بنفسه من الخَطْب المهول الذي كان قد فاجئه، فهو في مثل هذا الظرف يحتاج إلى مَن يقوده أو يُعرِّفه وسيلةَ الخلاص كما يحتاج الأعمى إلى مَن يقودُه إلى مقصده.

 

فالآيةُ المباركة تحكي واقعَ الحال الذي يكون عليه العُصاة يوم القيامة حين معاينتهم لأهوالها، فهم حينذاك ينتابهم الذهول وتستحكم بهم الحيرة حيث لا يجدون طريقاً يسلكُ بهم إلى النجاة ممَّا يجدونه قد أُعدَّ لهم من عذابِ جهنم، وكلُّ مَن تُحدِق بهم مصيبةٌ فإنَّ حيرتهم تنشأ عن رغبتهم في النجاة مع عدم وجدانهم لطريق النجاة لذلك فهم بحاجةٍ إلى مَن يقودهم إلى ما فيه خلاصهم كما هو شأن الأعمى حيثُ لا يتمكَّن من التعرُّف على الطريق الذي يبتعدُ به عن المعاثر والمهاوي فيظلُّ حيران ينتظر مَن يقوده إلى الطريق السالك، ذلك هو ما يكون عليه العصاة يوم القيامة، فهم يرجون النجاة لكنَّهم لا يجدون طريقاً إليها فيأملون أنْ ينتشلهم ربُّهم أو ملائكتُه أو أنبياؤه ممَّا هم منساقون إليه من عذاب، فلا يجدون سوى التجاهل والإعراض، وذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾.

 

فهو حين كان في الدنيا كان مُعرِضاً عن ذكرِ اللهِ تعالى لا يعبأُ به ولا يكترثُ بشرائعه، لذلك فهو حين صار إلى الآخرة وعاينَ أهوالها وعُمِّيت عليه وسائل النجاة فأمَّل حينذاك أنْ يقوده ربُّه إلى نجاة وجد أنَّ مآل أمله هو الخيبة، فهو يُخاطَب بأنَّكَ كنتّ ناسياً لآيات الله في الدنيا فأنت منسيٌّ في الآخرة، فلن تجد من ينتشلُك ممَّا أنت منساقٌ إليه من عذاب.

 

هذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى / قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا / قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾(5).

 

العمى هو الحيرة وضلال الطريق:

فالأعمى في الآية المباركة أستُعمل وأُريد منه الحيران، والحيرة تستبطنُ معنى الضلال عن الطريق المُفضي للخلاصِ والنجاة من العذاب، فشأنُ المتحيِّر من هذه الجهة شأنُ الأعمى الذي يضلُّ طريقه المُفضي إلى مقصده الذي يبتغيه، فكلٌّ منهما ضالٌّ عن طريقه المنشود، وكلٌّ منهما يرجو أنْ يجدَ من يُرشده إلى مبتغاه لكنَّ الثاني قد يجد مَن يقوده إلى مقصده المنشود، وأمَّا الأول الذي ضلَّ طريق نجاته يوم القيامة فإنَّه لن يجد مَن يقودُه إلى نجاته.

 

الدليل على معنى العمى:

أ- العطف التفسيري

والذي يُؤكِّد إرادةَ الحيرةِ والضلال من لفظ العمى في الآية المباركة ماورد في آيةٍ أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾(6) فقوله: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ عطفُ تفسيرٍ على كلمة الأعمى الثانية لذلك فمعنى الآية: مَن كان في الدنيا ضالاً لطريق الهدى الذي هو سرُّ سعادة الإنسان فهو في الآخرة أكثر حيرةً وضلالاً لطريق سعادته ونجاته.

 

ب- التعليل بالنسيان:

والمؤكِّدُ الآخر أنَّ الآيات أفادت في مقام الجواب عن تساؤله عن إصابته بالعمى أنَّه كان ناسياً لذكر الله تعالى في الدنيا فهو في الآخرة منسيٌّ مُعرَضٌ عنه، فلو كان المراد من العمى هو عمى البصر لم يكن وجهٌ لإجابته بأنَّه كان ناسياً لذكر الله فهو اليومَ منسيٌّ، إذ لا ربط بين معاقبته بسلب بصره وبين تعليل ذلك بأنَّه منسي، وهذا بخلاف ما لو كان المراد من العمى هو الضلال والحيرة فهو يتساءل أو هو يرجو بلسان التساؤل إنقاذه أوإرشاده لوسيلة الخلاص من هول ما يجد من عظيم الأخطار المُحدقة فيأتيه الجواب إنَّك منسيٌّ معُرَضٌ عنك فكابِدْ عناءَك وحدَك فلن تجدَ من يُسعفُك أو يُبصِّرُك طريق الخلاص فعقوبتك بذلك من جنس عملك في الدنيا، فقد كنتَ في الدنيا مُعرِضا ناسيًا لذكر الله لذلك فأنت اليوم منسيٌّ مُعرَض عنك، فيزداد لذلك حسرةً وحيرة.

 

ج- الإستفهام التذلُّلي:

فقوله: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى﴾ لم يكن تساؤلاً إستنكارياً لأنَّه في ظرفٍ يُخشى فيه من الإستنكار والإعتراض، ولا يُناسبه سوى الإلتماس والتذُّلل والرجاء، لذلك فهو حين قال: ﴿رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى﴾ كان يرجو من ذلك إنتشاله ممَّا هو فيه من الحيرة المطبِقة التي لا يجد معها سبيلاً إلى خلاصٍ سوى مناجاة ربِّه.

 

الدليل على انَّ العمى هنا ليس بمعنى فقد البصر:

هذا وقد أفادت آياتٌ كثيرة متفرِّقة في سوَرِ القرآن أنَّ المستحقِّين لعذاب جهنم يوم القيامة واجدون لملكة الإبصار، وذلك يكشف بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ المراد من العمى في الآية -التي هي مورد البحث- هو غير العمى الذي يعني فقد البصر والرؤية للمحسوسات:

 

فمن هذه الآيات قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾(7).

 

ومنها: قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾(8).

ومنها: قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(9).

 

ومنها: قوله تعالى في سورة فصلت: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَحَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾(10).

 

ومنها: قوله تعالى في سورة الكهف: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾(11).

ومنها: قوله تعالى في سورة الزمر: ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(12).

 

ومنها: قوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(13).

ومنها: قوله تعالى في سورة النازعات: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ / تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ / قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ / أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾(14).

 

ومنها: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾(15).

ومنها: قوله تعالى في سورة الأحقاف: ﴿وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾(16).

 

ومنها: قوله تعالى في سورة السجدة: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾(17).

ومنها: قوله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ / مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾(18).

 

فهذه الآيات وغيرها كثيرةٌ ومتفرقةٌ في سور القرآن، وهي صريحةٌ وظاهرةٌ في واجديَّة العصاة يوم القيامة لملكة الإبصار، وكان الرسولُ (ص) يتلوها في محافل المسلمين وفي الصلوات اليوميَّة ويُمليها على كتَّاب الوحي ويأمر المسلمين بإستنساخها وتعاهد تلاوتها وحفظها، فلو كان المراد من العمى في الآية التي هي مورد البحث وشبهها هو فقد البصر لما كان يخفى عليه التنافي بينها وبين هذه الآيات الكثيرة، فلو سلَّمنا جدلاً أنَّ النبيَّ (ص) لم يكن نبيَّاً فإنَّه كان دون خلاف من أكمل الناس عقلاً وأكثرهم فطنة، لذلك لا يخفى مثلُ هذا التهافت على مثله بل هو لايخفى حتى على مَن هو دونه في العقل والفطنة، وذلك لوضوح إمتناع وإستحالة أنْ يصدرَ من عاقلٍ إثبات العمى وفقد البصر لشخصٍ ونفيه عنه في ذات الوقت وهو الدار الآخرة، ولهذا يتعيَّن عدم إرادة فقد البصر من لفظ العمى في الآية التي هي مورد البحث، ويتأكَّد ما ذكرناه من أنَّ المراد من العمى في الآية المباركة هو غير المعنى الذي توهَّمه مثيرُ الشبهة.

 

المنشأ في توهُّم التناقض:

والمتحصَّل مما بيَّناه أنَّ دعوى التنافي بين الآيات المُثبتة لقدرة العصاة على الإبصار يوم القيامة وبين الآيات التي وصفتهم بالعمى لا تعدو الوهم الناشئ عن القصور وعدم المعرفة بأساليب الكلام العربي، فإنَّ توصيف الكافر بالأعمى سِيقَ على نهج المجاز المُعبَّر عنه عند علماء البلاغة بالتشبيه المؤكَّد ويُسميه بعضُهم التشبيه البليغ الذي يتمُّ فيه حذف أداة الشبَه، فمعنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ هو انَّه يُحشر يوم القيامة كالأعمى، فأداةُ الشبَه وهي الكاف حُذفت لغرض التأكيد على شدَّة التشابه بين المشبَّه وهو الكافر وبين المشبَّه به وهو الأعمى، ووجه الشبَه بينهما هو أنَّ كلاًّ منهما قد ضلَّ طريقه المنشود، فكلاهما يحتاج إلى مَن يقوده أو يُرشده إليه.

 

المحور الثاني: في قوله تعالى: ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾:

أ- الحدَّة بكلا المعنيين لا تُنافي العمى:

وأما قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(19) فإنَّ فقرة: ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ لو كانت بمعنى الحدَّة في النظر فإنَّه لا يُنافي قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ وذلك لما بيَّناه من أنَّ مراد الآية الثانية إنَّما هو تشبيه المُعرِض عن ذكر الله تعالى بالأعمى، وليس المراد منها توصيفه بالفاقد لملكة الإبصار حتى يكون ذلك منافياً لوصف بصره في الآية الأولى بالحدَّة، على أنَّ مِن غير البيِّن أنَّ الموصوف بالحدَّة في الآية الأولى هو الإبصار والنظر بل الظاهر منها أنَّ الموصوف بالحدَّة هو البصيرة كما هو مقتضى السياق، إلا أنَّه على كلا التقديرين لا يكون بين الآيتين تنافٍ أصلاً.

 

ب- الحدَّة بكلا المعنيين لا تُنافي النظر من طرفٍ خفي:

وكذلك فإنَّه لا تنافي بين الآية الأولى وبين قوله تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾(20) فإنَّه بناءً على أنَّ الموصوف بالحدَّة في الآية الأولى هو البصيرة والمعرفة فإنَّ الأمر في غاية الوضوح، إذ أيُّ مانعٍ من إتِّصافهم بالبصيرة الثاقبة لإنكشاف الحقائق لهم وبين وصف حالهم بالخشوع المقتضي لخفض الرأس والنظر على نحو الإنكسار والتلصُّص، بل إنَّ بين الوصفين تمام الملائمة، فلأنَّ الحقائق قد إنكشفت لهم فأصبحت بصائرهم ثاقبة فأدركوا عظمةَ خالقم وعاقبةَ ما كانوا يجترحونه وجلالَ ما كانوا يستصغرونه، لذلك فهم وجِلون ناكسوا رؤوسهم من استشعار الذل والهوان، فلا يكون نظرهم حينذاك إلا على سبيل الإنكسار والتلصُّص والذي يقتضي عادةً خفض الطرف خلافاً لمَن لا يكون هذا وصف حاله فإنَّه ينظر للشيء أو لمخاطِبه بملئ عينيه وجهاً لوجه فلا يعتري نظره خفضٌ وإنكسار.

 

فعدم التنافي بين الآية الأولى بناءً على تفسير البصر بالبصيرة وبين النظر من طرفٍ خفي واضحٌ بل هو في غاية الوضوح، وكذلك هو واضحٌ بناءً على تفسير الحدَّة في البصر بالحدَّة في الإبصار والرؤية، فإنَّه لامانع من اتَّصاف نظرهم بالحدَّة وفي ذات الوقت يكون وصف حالهم أنَّهم خاشعون من الذل وإذا نظروا للشيء أو لمَن يُخاطبهم نظروا إليه بإنكسار وتلصُص كأنَّهم يسترقون النظر، وذلك لخشيتهم أنْ يتضاعف الغيظُ منهم والغضبُ عليهم إذا ملئوا أعينهم بالنظر إلى ماحولهم أو إلى من يُخاطبهم وكأنَّهم غير مكترثين، فطبعُ الخائف المُجترِح للقبائح أنْ يكون نظرُه خفيضاً حينما يكون مُنتظِراً للعقوبة أو كان في موقع المُساءلة وذلك لإستدرار العطف والشفقة، والنظر بهذا النحو لايعني أنَّ بصره ضعيف، إذ لا ربط بين النظر على نحو الإنكسار والتلصُّص وبين وبين قوة البصر وضعفه كما هو أوضح من أن يخفى، وليس المقصود من قوله: ﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ أنَّه إذا نظر إلى الأشياء نظر إليها بملئ عينيه حتى يكون ذلك منافياً للنظر من طرفٍ خفي أي بإنكسار ومُسارقة.

 

المحور الثالث: ﴿.. زُرْقًا﴾:

وأما قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ فإنَّه لا يُنافي أيضاً الآيات المُثبِتة لواجديَّة المجرمين يوم القيامة لملكة الإبصار والنظر للمحسوسات، وذلك لأنَّ المراد من الآية يحتمل وجوهاً عديدة ذكرها المفسرون:

 

الوجوه المحتملة في تفسير الآية الكريمة:

1- زُرقة الإعياء والهلع:

منها: أنَّ الآية إنَّما هي بصدد التعبير عن شدَّة ما يكونون عليه من الفزع والهلع، وكذلك الإعياء والتعب فذلك ينعكس على أبدانهم فتبدو شاحبةً تميل إلى الزُرقة وكذلك ينعكس على أعينهم فيبدو سوادها وكأنَّه إستحال إلى زُرقة من شدَّة ماهم عليه من الإعياء والفزع، وذلك ملاحَظٌ لمَن يكون هكذا وصف حاله في الدنيا.

 

2- زُرقة الظمأ:

ومنها: أنَّ الآية بصدد التعبير عن شدَّة ما ينتابهم من الظمأ، فمعنى أنَّهم يُحشرون يوم القيامة زرقا هو أنَّهم يُحشرون عطشى ظامئين، فإنَّ العطش إذا تعاظم واشتدَّ ظهرَ أثرُه في العين فيبدو لونُها وكأنَّه استحال إلى الزُرقة.

 

وكونهم يُحشرون يوم القيامة عطشى ظامئين دلَّ عليه مثل قوله تعالى: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾(21) أى عطشى.

 

3- زُرقةٌ للتقبيح والإذلال وعلامةٌ لأجل الفضيحة:

ومنها: أنَّ المراد من الآية هو أنَّ المجرمين يُحشرون يوم القيامة وقد إزرقَّت عيونهم كما أنَّهم يُحشرون مسودَّة وجوههم فتقبح بهذا وذاك صورُهم، فيكون ذلك من الإمعان في إذلالهم.

 

أما إسوداد وجوههم فأفاده مثل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾(22)، وأما زُرقة أعينهم فللآية المباركة، وكذلك فإنَّهم يُوسمون على آنافهم بميسمٍ مُلتهبٍ يظهر أثرُه بيِّناً على آنافهم في مشهد القيامة كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾(23) فيكون وسْمُهم في هذا الموضع من الوجه لذات الغرض المذكور وهو الإذلال أو يكون الغرض من فعل كلِّ ذلك بهم هو فضحهم على رؤوس الأشهاد مضافاً إلى إذلالهم، وذلك لأنَّ ظهورهم بهذا المظهر القبيح والمتميِّز يكون علامةً على أنَّهم من المجرمين فيكون ذلك سبباً لإفتضاحهم وتعرُّف الناس في مشهد القيامة على سوء ما كانوا عليه في الدنيا وسوء المصير الذي سوف يُساقون إليه، قال تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾(24).

 

لا منافاة على جميع الوجوه!

وعليه فلو كان المراد من الآية المباركة هو أحد هذه الوجوه المذكورة فإنَّ الآية لن تكون منافية لما دلَّ على أنَّ المجرمين واجدونَ يوم القيامة لملكة الإبصار.

 

وأما إحتمال إرادة العمى من الزُرقة فإنَّه مع قطع النظر عن ضعفه فهو لا يقتضي الحكم بوجود التناقض بين الآية وبين الآيات الدالَّة على وجدان المجرمين يوم القيامة لملكة الإبصار، وذلك لأنَّ الحكم بالتناقض بين كلامين لايتمُّ إلا مع الجزم بمراد المتكلم في الموردين، وقد اتَّضح أنَّ إرادة العمى من كلمة "زرقا" في الآية لا يعدو الإحتمال المقابِل لإرادة إحتمالاتٍ أخرى إنْ لم تكن أوجه منه فهي مساويةٌ له.

 

مثالٌ توضيحي:

ولمزيدٍ من التوضيح نذكر لذلك مثالاً هو أنَّه لو أخبرك عاقلٌ ملتفِت بخبرٍ بيِّنٍ واضحٍ مفاده أنَّ أباه قد مات منذُ سنين وقد تمَّ دفنُه في هذه المقبرة وأُقيم الحدادُ والعزاءُ عليه في هذا المجلس، ثم إنَّ هذا الذي أخبَركَ بموت أبيه قال لك في يومٍ آخر: إنَّ أبي مسرورٌ في هذا اليوم، فهنا أحتملَ المخاطَب أنَّ هذا المتكلِّم يُخبر عن أنَّ أباه حيٌّ يُرزق، وذلك لأنَّ السرور مِن شأن الأحياء، فمقتضى إخباره بسرور أبيه هو الإخبار بحياته، وعليه فإنَّ هذا المتكلِّم يُناقض نفسه، لأنَّه كان قد أخبر أنَّ أباه قد مات وهو الآن يُخبر عمَّا يستلزم حياته لذلك فإنَّ هذا المتكلِّم متناقض!!

 

فهل يصحُّ ذلك من المخاطَب المتلقِّي للكلامين؟! أى هل يصحُّ له أنْ يبني على تناقض المتكلِّم الذي إفترضناه عاقلاً ملتفتاً لمجرَّد احتمال أنَّه أراد من كلامه الثاني الإخبار عنحياة أبيه، ألا يُحتمل أنَّه أراد من قوله إنَّ أباه مسرور في هذا اليوم هو أنَّه قد تحقَّق في هذا اليوم ما كان يتمنَّاه أبوه في حياته أو أنَّه أراد الإخبار عن أنَّه قد أحسن في هذا اليوم لبعض المعوزين بإسم أبيه فكان ذلك مقتضياً لإبتهاج روح أبيه وهو في قبره، فكلُّ ذلك وغيره محتمَلٌ من كلامه الثاني، وعليه فلا يصحُّ البناء على تناقض المتكلِّم مادام الإحتمال الذي لا يُناقض الخبر الأول وارداً، إذ أنَّ إتهام المتكلم بالتناقض في كلاميه يكون من الظلم المستقبَح، لأنَّه من الإتهام دون علم، وذلك لإحتمال عدم إرادته للمعنى المُستلزِم للتناقض، بل إنَّ مقتضى الإنصاف وإحترام عقول الناس وكذلك فإنَّ مقتضى أُصول الكلام عند أهل المحاورة هو استبعاد إحتمال إرادة المتكلِّم للمعنى المُستلزِم للتناقض والبناءُ على إرادة المتكلِّم لأحد الإحتمالات الغير مستلزمة للتناقض.

 

لا تناقض إلَّا مع الإنحصار في المعنى المناقض:

نعم لولم يكن للكلام الثاني معنىً محتمل إلا المعنى المناقِض للكلام الأول فحينئذ لا يسعنا إلا البناء على وقوع المتكلِّم في التناقض إلا أنَّ الأمر ليس كذلك في المثال المذكور، وهو ليس كذلك أيضاً بالنسبة لقوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ فإنَّ إحتمال إرادة العمى من كلمة "زرقا" ليس هو الإحتمال المتعيِّن من الآية بل ولا هو الإحتمال الراجح، ولذلك لا يصحُّ البناء على مناقضة الآية للآيات المتقدِّمة بل يتعيَّن استبعاد هذا الإحتمال لما ذكرناه من أنَّ ذلك هو مقتضى أُصول الكلام عند أهل المحاورة، وهو كذلك مقتضى الإنصاف وإحترام عقول الآخرين.

 

وجوابٌ أخير:

على أنَّ ما بيَّناه في مقام الحديث عن قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ يصلحُ جواباً على إحتمال إرادة العمى من كلمة "زرقا" في الآية المباركة، فلو كان مفاد قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ هو أنَّه نحشرهم يوم القيامة عمياً فإنَّ معنى ذلك أنَّه نحشرهم حيارى كما هو شأنُ الأعمى عندما يضلُّ طريقه ولا يجد مَن يقودُه إلى مقصده الذي يرغب في الوصول إليه.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة ق / 22.

2- سورة الشورى / 45.

3- سورة طه / 124.

4- سورة طه / 102.

5- سورة طه / 124-126.

6- سورة الإسراء / 72.

7- سورة البقرة / 166.

8- سورة النحل / 85.

9- سورة النحل / 86.

10- سورة فصلت / 19-22

11- سورة الكهف / 53.

12- سورة الزمر / 58.

13- سورة الفرقان / 42.

14- سورة النازعات / 6-9.

15- سورة البقرة / 165.

16- سورة الأحقاف / 35.

17- سورة السجدة / 12.

18- سورة إبراهيم / 42-43.

19- سورة ق / 22.

20- سورة الشورى / 45.

21- سورة مريم / 86.

22- سورة الزمر / 60.

23- سورة القلم / 16.

24- سورة الرحمن / 41.