الجمعُ بين الآيات التي بدأت بقوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾

شبهة لمسيحي:

ورد في القرآن في سورة البقرة قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾(1) وورد في سورة هود قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾(2) وفي سورة الكهف قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾(3) إلى غير ذلك .. فالمراد من الإستفهام في الآيات هو النفي، والمعنى لا أحد أظلم، فيكون خبراً، وإذا كان خبراً وأخذت هذه العبارات أدَّى إلى التناقض.

 

الجواب:

منشأ الدعوى:

منشأ دعوى التناقض هو أنَّ مفاد الآية الأولى الإخبار عن أنَّ الأظلم هو المانع لمساجد الله تعالى أنْ يُذكر فيها اسمُه، ومفاد الآية الثانية أنَّ الأظلم هو المفتري على الله تعالى كذباُ، ومفاد الآية الثالثة أنَّ الأظلم هو المُعرِض عن آيات ربِّه، فمَن هو الأظلم مِن هؤلاء؟ هل هو الذي ذكرتْه الآية الأولى أو هو الذي ذكرتْه الآية الثانية أو المذكور في الآية الثالثة؟

 

الرد: نفي الأعظم لا يمنع وجود المساوي:

والجواب انَّه بأدنى تأمُّلٍ يتبيَّن عدم التناقض أصلاً بين هذه الآيات، وذلك لأنَّ معنى مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾(4) هو أنَّه لا أحدَ أعلى ظُلماً ممَّن منع مساجد الله تعالى، فهي تنفي أنْ يكون أحدٌ أشدَّ ظلماً ممَّن منع مساجد الله ولكنَّها لا تنفي أنْ يكون أحدٌ مساوياً في الظلم لمَن منع مساجد الله أنْ يُذكر فيها إسمه.

 

فالظالمون إذا نسبتهم إلى بعضِهم البعض كان بعضُهم أشدَّ ظلماً من الآخرين، وكان بعضُهم أقلَّ ظلماً من الآخرين، وكان الثالث مساوياً لأعظم الناس ظلماً، وكان الرابع مساوياً لأقلَّ الناس ظلماً، ومَن بقيَ من الظالمين فهم متفاوتون في مستوى الظلم لكنَّه لا يرقى أحدُهم لمستوى أعلى الناس ظلماً ولا ينزل عن أقلَّ الناس ظلماً.

 

فالآيةُ المباركة حينما أفادت أنَّه لا أحدَ من الناس أظلمُ ممَّن منع مساجد الله تعالى فإنَّها إنَّما تنفي وجود الأعظم ظلماً من المانع لمساجد الله تعالى، فلا أحدَ من الظالمين مهما اشتدَّ ظلمُه يكون أعظمَ ظلماً ممَّن منع مساجد الله، فهي تنفي وجود الأعظم ظلماً ولكنَّها لا تنفي المساوي.

 

مثال توضيحي:

عيناً كما لوقيل: "لا شيءَ من المباني في العالم أطول من هذا البرج" فإنَّه لو وُجد برجٌ آخر في بلدٍ من البلدان مساويأ للبرج المذكور فإنَّ ذلك لا يُنتج كذبَ القضية المذكورة، لأنَّ القضية المذكورة إنَّما أخبرت عن عدم وجود برجٍ في العالم أطول من البرج المشار إليه ولم تنفِ وجود المساوي له، نعم تكون القضية كاذبة لو وُجد برجٌ أطول من البرج الذي قيل في القضية إنَّه الأطول في العالم إلا أنَّ ذلك لم يقع بحسب الفرض وأنَّ الموجود هو المساوي وليس الأطول.

 

لا تكاذب بين الآيات الكريمة:

ومن هنا لا يكون بين مفاد الآيات المذكورة تكاذباً لو جَمعتَ بينها، فيصحُّ انْ يُقال: لا أحدَ أظلم ممَّن منع مساجد الله حتى المفتري على الله تعالى فإنَّه ليس أعظمَ ظلماً ممَّن منع مساجد الله نعم هو مساوٍ له والمساوي ليس أعظم ظلماً.

 

ويصحُّ أنْ تُعكس القضيَّة فيُقال: لا أحدَ أظلم ممَّن افترى على الله تعالى حتى مَن منع مساجد الله فإنَّه ليس أعظمَ ظلماً منه لأنَّه مساوٍ له.

 

ويصحُّ أنْ يُقال: لا أحدَ أظلم ممَّن أعرض عن آيات ربِّه حتى مَن منع مساجد الله وحتى مَن افترى على الله تعالى فإنَّهما ليسا أعظمَ ظلماً منه لأنَّهما مساويان له، فهما إذن ليسا أعظم ظلماً منه، فالقضايا الثلاث صادقة ولا تكاذبَ بينها.

 

الجمع بين الآيات الثلاث:

وعليه يكون مقتضى الجمع العرفي بين مفاد الآيات الثلاث هو أنَّه لا أحد أعظم ظلماً ممَّن منع مساجد الله وممَّن افترى على الله وممَّن أعرض عن آيات الله وممَّن كتم شهادةً عنده من الله جل وعلا، فهؤلاء هم أعظمُ الناس ظلماً أي أنَّهم متساوون مِن حيث وقوعهم في أعلى درجات الظالمين، فكلُّ مَن سواهم فهو دونهم في مستوى الظلم.

 

فيكون مساقُ هذه الآيات هو مساق ما لو قيل في موردٍ واحد: "لا أحدَ أعلمُ من زيدٍ وبكرٍ وخالد" فإنَّ أحداً لا يجد تناقضاً في الجملة المذكورة لوضوح أنَّ مفادها هو أنَّ هؤلاء الثلاثة هم أكثر الناس علماً وأنَّ مَن سواهم فهو أدنى منهم مرتبةً في العلم.

 

دليل آخر:

والذي يُؤكِّد أنَّ الآيات لم تكن بصدد نفي المساوي وإنَّما كانت بصدد نفي الأدنى ظلماً هو أنَّ آيةً واحدة جمعت بين أصنافٍ ثلاثة من الظالمين وأفادت أنَّه لا أحدَ أظلم من كلِّ واحدٍ منهم، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾(5).

 

فكلُّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة وهم المفتري على الله كذباً، والمُنتحِل لمقام النبوَّة، والمدَّعي القدرةَ على الإتيان بمثل القرآن، كلُّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة أَخبرت الآية عن أنَّه لا أحد أظلم منه وأنَّه أعظمُ الناس ظلماً.

 

فهل يجد أحدٌ تناقضاً بين فقرات الآية المباركة؟! أو أنَّ الواضح من مفادها هو أنَّ كلَّ هؤلاء الثلاثة واقعون في الرتبة الأعلى من مراتب الظالمين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

من كتاب شبهات مسيحيَّة


1- سورة البقرة / 114.

2- سورة هود / 18.

3- سورة الكهف / 57.

4- سورة البقرة / 114.

5- سورة الانعام / 93.