الأجداثُ هيَ القُبور

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾(1) ويقول تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾(2) ويقول تعالى: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾(3) لماذا استعمل القرآن الكريم مفردة أجداث عند خروج الأموات يوم البعث ولم يستخدم مفردة القبور؟

وهل يصحُّ ما ذكره البعضُ من أنَّ المقصود من الأجداث هي ذرَّات متناهية في الصغر من خلايا الجسد فيكون معنى ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ هو أنَّ الله ينبت الناس من هذه الذرات والخلايا المتناثرة، وإذا لم يكن كذلك فكيف يبعث اللهُ الموتى الذين لا قبرَ لهم كالذين يُحرقون والغرقى؟

الجواب:

أمَّا دعوى أنَّ الله تعالى لم يستعمل كلمة القبور في مقام الإخبار عن بعث الموتى يوم القيامة فلا تصح، فإنَّ القرآنُ الكريم قد استعمل في العديد من الآيات كلمة القبور في مقام الإخبار عن بعث الناس ليوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾(4) وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾(5) وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ / وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾(6).

وأمَّا لماذا استعمل القرآنُ كلمة الأجداث في آياتٍ أخرى فلأنَّ كلمة الأجداث مرادفةٌ لكلمة القبور، فالأجداث والقبور كلمتان تُعبِّران عن معنًى واحد كما نصَّ على ذلك علماءُ اللغة.

فالأجداث جمعُ جدَث، والجدَثُ هو القبر كما أفاد ذلك ابنُ منظور في لسان العرب قال: "الجَدَثُ: القَبْر .. والجمع أَجْداثٌ"(7).

ويقول الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين: "الأجداث: القبور، واحدها جدث"(8).

ويقول الجوهري في الصحاح: "الجدث: القبر، والجمع أجدُث وأجداث"(9).

ويقول ابنُ الأثير في كتاب النهاية: "الجَدَثُ: القَبْر، وفي حديث عليٍّ (ع): في جَدَثٍ يَنْقَطِعُ في ظُلْمته آثارُها أَي في قبرٍ، والجمع أَجْداثٌ ومنه الحديث: (نُبوِّئهم أجداثهم) أي نُنزلهم قبورَهم"(10).

وكلماتُ اللغويِّين جميعًا متَّحدة في تفسير الأجداث بالقبور، فدعوى أنَّ الأجداث هي ذرَّات متناهية في الصغر من خلايا الجسد لا تعدو التمحُّل والعبث بمداليل اللغة وما تقتضيه ظهوراتُ الكلام العربي، هذا وقد ورد استعمال الأجداث في القبور في الكثير من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع).

فمِن ذلك ما ورد عن الإمام عليٍّ (ع) في نهج البلاغة قال في إحدى خطبه: يصف الموتى: "ومَقْبُوضُونَ احْتِضَارًا ومُضَمَّنُونَ أَجْدَاثًا وكَائِنُونَ رُفَاتًا"(11) فمعنى قوله: "ومُضَمَّنُونَ أَجْدَاثًا" هو أنَّهم صائرون ضمن الأجداث أي القبور، فالجدث هو الظرف والمكان، والميتُ هو المظروف والكائن ضِمن القبر.

ومن ذلك ما ورد أيضًا في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) قال في إحدى خطبه: "حُمِلُوا إلى قُبُورِهِمْ - فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَانًا، وأُنْزِلُوا الأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَانًا، وجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ، ومِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ ومِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ"(12).

فمعنى قوله (ع): "وأُنْزِلُوا الأَجْدَاثَ" هو أنَّهم أُنزلوا إلى القبور، فالجدَث منزلٌ ومكانٌ يتمُّ إنزال الميِّت فيه، فليس هو ذرَّات جسد الميت بل هو المكان الذي يتمُّ فيه إيداع الميِّت، فهو شيءٌ آخر غير الميت وغير ذرَّات جسده، فالجدَث هو الموضع الذي يتمُّ فيه إيداع الميِّت وإنزاله فيه، فليس هو ذرَّات جسد الميت -كما توهَّم الكاتب المذكور- وإلا لما صحَّ تسميته جدثًا من حين إنزاله فيه وقبل أنْ يتحلَّل ويتلاشى.

ومن ذلك أيضًا ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) قال يصف أحوال الناس يوم القيامة: "قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الأَجْدَاثِ، وصَارُوا إلى مَصَايِرِ الْغَايَاتِ لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا، لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا ولَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا"(13).

فوصفُ الجدَث بالمستقر يعنى أنَّه المكان الذي كان فيه مستقرُّهم وذلك يقتضي أنْ لا يكون الجدث هو نفسه جسد الإنسان فهو مستقرُّ جسده وليس هو ذات الجسد كما توهَّم هذا الكاتب.

وكذلك هو مفاد الآيات، فمعنى قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ هو أنَّهم شيءٌ آخر غير الأجداث، فالأجداث هو المكان الذي يخرجون منه وليس هو ذاته ذرَّات جسد الخارج منه.

وأمَّا كيف يبعثُ الله الموتى الذين لا قبر لهم كالذين يُحرقون أو الغرقى أو الذين تأكلُ أجسادهم الوحوش فلم يتصدَّ القرآن لبيان كيفية إحيائهم كما لم يتصدَّ لبيان كيفية إحياء مَن يبعثهم الله تعالى من قبورهم وإنَّما أشارت الآيات إلى أنَّ الله تعالى الذي خلقهم أوَّل مرَّة قادرٌ على إعادة خلقهم بعد تحلُّل أجسادهم وتناثرها وتلاشيها، فلا فرق من هذه الجهة بين من يُدفنون في القبور وبين مَن تتلاشا أجسادُهم بالحرق أو في بطون السباع والأسماك يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ / قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾(14).

ويقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(15) فالذي خلق السماوات والأرض ولم يعجز عن خلقهنَّ قادر على أن يحيي الموتى بعد تلاشي أجسادهم فهو على كلِّ شيء قدير.

ويقول الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى / أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى / ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى / فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى / أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾(16) فالقادر على أن يخلق الإنسان من سائل منوي فيصيِّرة علقةً في رحمٍ ثم ينتقل من طورٍ إلى طور إلى أن يُصبح انسانًا كاملًا واجدًا لجميع مقومات الحياة إنَّ الذي أخرجه من كتم العدم بهذه الصورة وهذه المقوِّمات قادرٌ على إعادة خلقه به موته وتلاشي جسده.

والآيات في ذلك كثيرة، وأمَّا قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ / وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ / رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾(17) فليس بيانًا لكيفية إعادة إحياء الموتى بل هو إلى إشارة أنَّ الله تعالى كما هو قادر على إحياء الأرض الميتة بالمطر وتصييرها مؤهَّلة لأنْ تنمو فيها الزروع بعد أنْ لم تكن كذلك قبل هطول المطر قادرٌ أيضًا على إحياء الموتى يوم الخروج أي يوم البعث.

وليس معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا / ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾(18) أنَّ كيفية الإحياء هي ذاتها كيفيَّة إنبات الزروع ولذلك عبَّرت الآية عن الخلق الأول للإنسان بالإنبات رغم أنَّه مختلفٌ عن كيفية إنبات الزروع كما هو مشاهدٌ بالوجدان.

وحين سأل إبراهيم (ع) ربَّه أنْ يريَه كيف يُحيي الموتى بيَّنَ له طريقة مباينة تمامًا لكيفية إنبات الزروع قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(19) فأمره أن يباعد بين أجزاء الطيور ثم أمره أنْ يدعوها إليه فاستوت كما كانت وجاءت إليه تسعى.

وكذلك فإنَّ الذي مرَّ على قرية وهي خاوية وتساءل: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ ثم أراه كيفية إحياء حماره فقال: ﴿وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إلى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(20).

فكيفيَّة الإحياء أمر مجهولٌ لنا ولم يتصدَّ القرآن لبيانه، والإيمان بإحياء الله تعالى للموتى بعد تناثر أجزائهم وتلاشيها إنَّما نشأ عن إيماننا بأنَّ الله تعالى على كلِّ شيء قدير، والقرآن الكريم إنَّما أشار إلى نماذج من إحياء الله للموتى كإحياء الأرض بعد موتها وإحياء الطيور الأربعة لإبراهيم وإحياء حمار الذي مرَّ على قرية وهي خاوية، وإحياء الرجل من بني إسرائل بضربه ببعض أجزاء البقرة(21) وإحياء الذين أماتهم الله مع نبيِّ الله موسى (ع)(22)، فالقرآن إنَّما أشار إلى هذه النماذج للتأكيد على أنَّ الله على كلِّ شيء قدير، ونلاحظ أنَّ كيفية الإحياء لهذه النماذج مختلفة، نعم هي تشترك في خصوصيَّةٍ واحدة وهي أنَّ الإحياء يكون بإرادة الله تعالى ومشيئته، فهو تعالى قادرٌ على أنَّ يُحيي الموتى دون مقدمات فيقول للشيء كن فيكون وقد تتعلَّق إرادته بالإحياء عبر مقدِّمات ومراحل وأطوار.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المعارج / 43.

2- سورة يس / 51.

3- سورة القمر / 7.

4- سورة الحج / 7.

5- سورة الإنفطار / 4.

6- سورة العاديات / 9-10.

7- لسان العرب -ابن منظور- ج2 / ص128.

8- كتاب العين -الخليل بن أحمد الفراهيدي- ج6 / ص73.

9- الصحاح -الجوهري- ج1 / ص277.

10- النهاية -ابن الأثير- ج1 / ص243.

11- نهج البلاغة ص109.

12- نهج البلاغة ص166.

13- نهج البلاغة ص219.

14- سورة يس / 78-79.

15- سورة الأحقاف / 33.

16- سورة القيامة / 36-37.

17- سورة ق / 9-11.

18- سورة نوح / 17-18.

19- سورة البقرة / 260.

20- سورة البقرة / 259.

21- ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، سورة البقرة / 67-68.

22- ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ / ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، سورة البقرة / 55-56.