هل المناسب تقديم النوم في الآية: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾(1) أليس من المناسب أنْ يُقال: لا يأخذُه نومٌ ولا سِنَة، فإنَّ الترقِّي يكون من الأقوى إلى الأضعف ومثال ذلك: زيدٌ لا يستطيعُ حمل عشرين رطلًا ولا عشرة أرطال؟

 

تحرير الإشكال:

السِنة مصدر وسِنَ، يُقال: وَسِنَ الرَّجُلُ، كفَرِحَ، وَسَنًا وسِنَةً، فهو وَسِنٌ ووَسْنانُ(2)، والسِنةُ حالةُ الفتور التي تعتري الإنسان قبل النوم فهي متقدِّمة على النوم أو هي النعاس الذي يسبقُ النوم الثقيل الذي يغيب معه الوعي.

 

ولأنَّ الواضح من مساق الآية أنَّها في مقام الترقِّي في النفي والتنزيه لذلك قد يكون المناسب هو نفي النوم أولًا ثم نفي السِنة، فيُقال مثلًا: لا يأخذه نومٌ بل ولا تأخذه سِنة تمامًا كما يُقال مثلًا: زيد لا يستطيع حمل الوزن الثقيل ولا الوزن الخفيف، أمَّا لو قيل إنَّ زيدًا لا يستطيع حمل الوزن الخفيف فلا نحتاج الى القول ولا الوزن الثقيل لأنَّه اذا لم يكن قادرًا على حملِ الوزن الخفيف فهو غيرُ قادرٍ حمل الوزن الثقيل بالأولوية.

 

كذلك المقام فإنَّه اذا لم يكن ينعس فهو لا ينام قطعًا، فإذا قلنا إنَّه لا تأخذه سِنة ولا نعاس فلا نحتاج الى نفي النوم عنه لأنَّ نفي السِنة يلزمُ منه انتفاء وقوع النوم، أي إنَّ نفي السِنَة عنه يدلُّ بالأولوية على نفي النوم، نعم لو قدَّمنا نفي النوم وقلنا: لا يأخذه نومٌ فيُمكن القول: ولا سِنة، لأنَّه قد لا ينام ولكنَّه ينعس فنحتاج بعد نفي النوم الى نفي السِنة والنعاس. ولهذا قد يُقال إنَّ المناسب هو نفي النوم أولًا ثم نفي السِنة وليس العكس.

 

وببيانٍ آخر: إنَّ الترقِّي في الجمل الإثباتية يكون من الأضعف الى الأقوى فيُقال: زيد يستطيع حمل الوزن الخفيف بل ويستطيع حملَ الوزن الثقيل، وزيد يجود بالمال القليل بل ويجود بالمال الكثير، فالترقِّي في الجمل المُثبَتة يكون من الأضعف إلى الأقوى والأشد.

 

وأمَّا الترقِّي في الجمل السلبيَّة المنفيَّة فيكون من الأقوى الى الأضعف، فيُقال مثلًا: زيدٌ لا يستطيع حمل الوزن الثقيل بل هو لا يستطيع حملَ الوزنِ الخفيف، ويُقال زيدٌ لا يجودُ بالمال الكثير بل ولا يجود بالمال القليل، كذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فإنَّها جملة منفيَّة فالمناسب أنْ يكون الترقِّي فيها من الأقوى وهو النوم إلى الأضعف وهو السِنَة والنعاس، إذ أنَّ نفي الأقوى لا يدلُّ على نفي الأضعف، فنفي النوم لا يدلُّ على نفي السِنة والنعاس بخلاف العكس فإنَّ نفي النعاس يدلُّ على نفي النوم، فمع نفي السِنة والنعاس كما في الآية لا يكون لنفي النوم حاجة فهو منفيٌّ بالأولويَّة.

 

الجواب:

إنَّ الترقِّي في الجمل المنفيَّة من الأقوى إلى الأضعف إنَّما يصحُّ في فرض نفي صدور الأقوى من الفاعل، فإنَّ نفي صدور الأقوى منه لا يدلُّ على نفي صدور الأضعف، فقد لا يصدر منه الأقوى ولكن يُمكن أنْ يصدر منه الأضعف، ولذلك حين يُراد الترقِّي فإنَّه يتمُّ أولًا نفيُ صدور الأقوى ثم يتمُّ نفيُ صدور الأضعف، فيقال مثلًا: زيدٌ لا يستطيعُ حملَ الوزن الثقيل ولا الخفيف، وزيد لا يجود بالمال الكثير ولا القليل.

 

وأمَّا الترقِّي في الجمل المنفيَّة في فرض عروض الفعل على مفعول يعني الترقي بلحاظ المفعول فإنَّه يكون من الأضعف إلى الأقوى فيُقال مثلًا: زيدٌ لا يضرُّ به البردُ الخفيف ولا الشديد، فالترقِّي يكون من الأضعف إلى الأقوى، فلو نفينا عنه التأثُّر والتضرُّر بالبرد الخفيف فإنَّ ذلك لا يدلُّ على عدم تأثُّره وتضرُّره بالبرد الشديد، وكذلك يُقال: زيدٌ لا يخضع لابتزاز الضعفاء ولا الأقوياء، وزيدٌ لا تُؤثِّر فيه لسعةُ البرغوث ولا العقرب، ولا تُخيفه الكلاب ولا الذئاب، فالترقِّي في هذه الأمثلة يبدأ من الأضعف إلى الأقوى، وذلك لأنَّ نفي الأضعف في هذه الأمثلة وشبهها لا يدلُّ ولا يُلازم نفي الأقوى، فحينما نُخبر عن أنَّ زيدًا لا يخضعُ لابتزاز الضعفاء فإنَّ ذلك لا يدلُّ على أنَّه لا يخضعُ لابتزاز الأقوياء، وكذلك حينما نُخبر عن أنَّ جسده لا يتأثَّر من لسع البرغوث فإنَّ ذلك لا يدلُّ على أنَّه لا يتأثَّر من لسع العقرب، فنفيُ الأضعف لا يدلُّ على نفي الأقوى.

 

كذلك هو الشأن في الآية المباركة فإنَّ الترقِّي فيها بلحاظ نفي ما يعرضُ المفعول، ولهذا صار المناسب هو الترقِّي من نفي الأضعف وهي السِنة إلى نفي الأقوى وهو النوم، ومنشأ ذلك واضحُ فإنَّ نفي السِنة لا يدلُّ ولا يلزم منه نفي النوم. فقد يكون الإنسان من الوعي واستجماع الحواس بحيث لا تُؤثِّر عليه أسباب وعوامل السِنة والتي تكون ضعيفة بالقياس إلى عوامل وأسباب النوم، ولهذا فنفيُ وقوعه تحت تأثير أسباب السِنة لا يُلازم نفي وقوعه تحت تأثير أسباب وعوامل النوم القاهرة والقويَّة، ومن هنا كان لابدَّ -لإفادة الترقِّي- مِن نفي النوم بعد نفي السِنَة، إذ أنَّ نفي السِنة المسبَّبة عن عواملَ ضعيفة لا يدلُّ على نفي النوم المسبَّب عن عوامل قويَّة.

 

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ الجسد قد ينتابه شيءٌ من التعب فيشعر بالحاجة إلى النوم فيسوقه ذلك إلى الشعور بالنعاس إلا أنَّ هذا التعب وهذه الحاجة ليست من القوَّة بحيث لا يُمكن مقاومتها وطردها والحيلولة دون تأثيرها لأثرها وهو الشعور بالنعاس، وقد ينتابُ الجسد تعبٌ وإعياءٌ شديد وهجرانٌ للنوم طويل فتكون الحاجة معه إلى النوم شديدة وملحَّة فيشقُّ عليه مقاومتها، فحينما نمتدح زيدًا بأنَّه لا تأخذُه سِنةُ فإنَّنا نقصد من ذلك أنَّه لا يخضع لعوامل النعاس ولا يقعُ تحت تأثيرها بل هو من النشاط واستجماع الحواس بحيث يكون قادرًا على مقاومة هذه العوامل إلا أنَّ مدحه بذلك لا يدلُّ على أنَّ العوامل لو كانت قويَّة وملحَّة فإنَّه لا يقعُ تحت تأثيرها، ولذلك لو أردنا إفادة هذا المعنى فإنَّ علينا أنْ ننفي عنه الخضوع لعوامل النوم القويَّة بعد نفي الخضوع لعوامل النوم الضعيفة. أو ننفي عنه ابتداءً الخضوع لعوامل النوم القويَّة فيكون ذلك دالًّا على انتفاء تأثير العوامل الضعيفة الموجبة للنعاس فنقول لا يأخذه نوم ونسكت وبذلك يفوت الغرض من الترقِّي.

 

ومن ذلك يتَّضح منشأ نفي السِنة أولًا ثم نفي النوم فإنَّ نفي السِنة لا يدلُّ على نفي النوم، ولو تمَّ نفيُ النوم أولًا لم تكن ثمة حاجة لنفي السِنة ولكنَّ ذلك سوف يفوتُ به الغرض البلاغي من الترقِّي من الأضعف الى الأقوى.

 

وعليه فمعنى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ هو أنَّه لا تستولي عليه عوامل النعاس فيقع تحت تأثيرها المقتضي للشعور بالخمول المنتج عادة لمستوىً من الذهول والغفلة، ولو اقتصرنا على ذلك لم يكن للآية دلالة على نفي الوقوع تحت تأثير عوامل النوم القويَّة ولذلك كان لابدَّ من نفي استيلاء عوامل النوم عليه، ولو بدأ بنفي النوم لم يكن من المناسب نفي السِنة بعده لأنَّ نفي وقوعه تحت تأثير عوامل النوم القويَّة كافٍ للدلالة على نفي خضوعه لعوامل النعاس الضعيفة بالقياس لعوامل النوم القويَّة، ولو تمَّ الاِقتصار على نفي الوقوع تحت تأثير عوامل النوم لكان ذلك مقتضيًا لعدم الحاجة إلى نفي السِنة إلا أنَّه بذلك يفوتُ الغرض البلاغي من الترقِّي.

 

فنحن أمام خياراتٍ أربعة: أنْ ننفي السِنة ونسكت، وحينئذٍ لا يكون للآية دلالة على نفي النوم، والخيار الثاني أنْ ننفي النوم ونسكت، وحينئذٍ يكون هذا النفي كافيًا للدلالة على نفي السِنَة ولكن يفوت به الغرض البلاغي من الترقِّي، والخيار الثالث أن ننفي النوم أولًا ثم ننفي السنة وهذا لا يصح أو هو غيرُ مناسِب لأنَّ نفيَ الوقوع تحت تأثير النوم كافٍ للدلالة على نفي الوقوع تحت تأثير عوامل النعاس الضعيفة فيكون الإخبار عن نفي النعاس بعد الإخبار عن نفي النوم بلا موجب، فهو أشبه شيءٍ بالإخبار عن عدم تأثُّر زيد بالبرد الخفيف بعد الإخبار عن عدم تأثره بالبرد الشديد القارس، والخيارُ الرابع هو أنْ ننفي عنه السِنة أولًا ثم ننفي عنه النوم، وهذا هو المتعيِّن لأنَّه الخيار الوحيد الذي يتحقَّق به الترقِّي من الأضعف إلى الأقوى.

 

وخلاصة القول: إنَّ الآية لمَّا كانت بصدد الترقِّي لذلك كان المناسب هو البدء بنفي التأثُّر بالعوامل الضعيفة فيكون حاصل المراد من الآية أنَّه لا يخضعُ ولا يقع تحت تأثير العوامل الضعيفة بل ولا القويَّة فلا تؤثِّر عليه أسباب النعاس الضعيفة بل ولا أسباب النوم القويَّة.

 

ثم إنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ هو أنَّه جلَّ وعلا ليس كسائر الأحياء من ذوي الأجساد والتي يعتريها النعاس وتقعُ تحت تأثير أسبابه ويعتريها النوم وتقع تحت تأثير أسبابه، فهو تعالى منزَّهٌ عن المادَّة والتجسُّم فلا يَعرُضُ عليه ما يَعرُضُ على الأجسام، وإنَّما تصدَّت الآية لنفي السِنة والنوم عنه رغم وضوح أنَّ ذلك من شؤون الأجسام وأنَّه تعالى منزَّهٌ عن ذلك، إنَّما تصدَّت الآية الشريفة لنفي ذلك عنه جلَّ وعلا دفعًا لما قد يتوهَّمه البسطاء من الناس والتي عادةً ما تُشبِّه ما لا تعرف بما قد ألِفته وأنِستْ به من الأحياء.

 

وكذلك فإنَّ الآية كانت بصدد التفنيد لما زعمته اليهود والنصارى من أنَّ الله تعالى يعتريه التعب فيخلُد للراحة، فقد ورد في كتابهم المقدَّس في العهد القديم في سِفْر التكوين في الإصحاح الثاني قال :"فأُكملت السماوات والأرض وكلُّ جندها، وفرغ اللهُ في اليوم السابع من عملِه الذي عمل، فاستراحَ في اليوم السابع من جميع عملِه الذي عمل، وبارك اللهُ اليوم السابع وقدَّسه، لأنَّه فيه استراح من جميع عمله" وورد في العهد القديم أيضًا في سِفْر الخروج في الإصحاح الحادي والثلاثين :"لأنَّه في ستة أيام صنعَ الربُّ السماءَ والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفَّس"، وورد في العهد الجديد في الرسالة إلى العبرانيين قال: "واستراح اللهُ في اليوم السابع من جميع أعماله".

 

فالآية إنَّما تصدَّت لنفي السِنةِ والنوم عنه جلَّ وعلا لدفع ما كانت تزعمُه اليهود، ولإفادة ما يقتضيه كونه القيُّوم أي القائم على تدبير الخلق والكون وأنَّ له السماوات والأرض، فإنَّ مقتضى القيُّومية التامَّة والدائمة التي لا تتخلَّف آنًا ما هو أنَّه تعالى لا يلحقه ذهولٌ ولا غفلة فضلًا عن السُبات، فإنَّه لو كان جلَّ وعلا يقعُ تحت تأثير شيءٍ من ذلك لم تكن قيُّوميَّته تامَّة ودائمة ولاتَّصف بعدمِها حين يعتريه السُبات أو الذهول تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرا.

 

ويُؤكِّد أنَّ الآية بصدد نفي وتفنيد ما تزعمُه اليهود ما ورد في معتبرة حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: جَلَسَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) مُتَوَرِّكًا، رِجْلُه الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِه الْيُسْرَى، فَقَالَ لَه رَجُلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذِه جِلْسَةٌ مَكْرُوهَةٌ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ قَالَتْه الْيَهُودُ لَمَّا أَنْ فَرَغَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ واسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ جَلَسَ هَذِه الْجِلْسَةَ لِيَسْتَرِيحَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ :﴿الله لا إِله إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُه سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ وبَقِيَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) مُتَوَرِّكًا كَمَا هُوَ"(3).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة البقرة / 255.

2- لاحظ: تاج العروس -مرتضى الزّبيدي- ج18 / ص574.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص661.