الهداية في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما معنى الهداية؟ وهل توجد هداية تكوينيَّة؟
وما المراد من هذه الآية الواردة في الآية من سورة القصص: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(1)؟
وهل يُوجد تضاد بين هذه الآية وبين قوله تعالى من سورة الشورى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(2)؟
دمتم في رعاية الله وحفظه
الجواب:
معنى الهداية وما تنقسم عليه:
الهداية تارةً تكون بنحو الإراءة للطريق المُفضِي للمقصَد، وتارةً تكون بنحو الأخذ باليد والإيصال للمقصَد، فحين يسألك إنسانٌ عن دار زيد، فتارةً تُشير إلى الطريق المؤدِّي لدار زيد وتُبيِّنُ لهذا السائل أنَّه إذا سلك هذا الطريق فإنَّه سيصل إلى دار زيد، فدارُ زيد هي مقصَد السائل، والإشارة إليها والتعريف بالطريق المُوصل لتلك الدار هو الإراءة والتي هي تعبيرٌ آخر عن الهداية، فالهداية هي الإشارة والتعريف والبيان للطريق المؤدِّي للمقصَد.
والنحو الثاني للهداية هو أنْ تأخذ بيد هذا الإنسان الباحث عن دار زيد وتقودُه إلى أنْ تُوصلَه وتُوقفَه عند دار زيد، فالهدايةُ في هذا الفرض تعني الإيصال للمقصَد.
الهداية بمعنى الإراءة هي وظيفة الأنبياء:
والهدايةُ بالنحو الأول هي المقصودة من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(3) يعني أريناهُ طريق الإيمان وهو بعده بالخيار فإمَّا أنْ يشكر أو يكفر، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾(4) أي وأريناه ما يُميِّز به طريق الرُشد والإيمان من طريق الكفر.
واستُعمل كذلك الهدى بمعنى الإراءة في مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾(5) وقوله تعالى: ﴿فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا / يَهْدِي إلى الرُّشْدِ﴾(6) فمعنى الهداية للتي هي أقوم والهداية للرشد هي الإراءة والبيان للطريق القويم ولطريق الرُشد.
وهذا النحو من الهداية هي وظيفة الأنبياء والمصلحين، فوظيفتُهم هي الإراءة للطريق المُوصِل إلى الإيمان بالله تعالى والعقائد الحقَّة والتعريف بأحكامه تعالى ومقاصده وغاياته، ويدلُّ على ذلك مثل قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾(8) فوظيفةُ الرسل هي البلاغ والبيان وهو تعبير آخر عن الهداية بمعنى الإراءة والإيضاح والدلالة على طريق الحقِّ والرشاد.
وكذلك يدلُّ على أنَّ وظيفة الأنبياء هي الهداية بمعنى الإراءة مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(10) فوظيفةُ الأنبياء هي التبيين والتذكير والتعريف بمعاني ومقاصد الكتاب المنزَّل على الناس من عند الله تعالى، فالغرضُ من بعث الأنبياء وإرسالهم هو التعليم والبيان والتذكير ثم على الناس بعده أن يتفكَّروا ويختاروا.
وكذلك يدلُّ على أنَّ وظيفة الأنبياء هي الهداية بالنحو الأول -والتي هي الإراءة- جميعُ الآيات التي وصفت الأنبياء بالمبشِّرين والمنذرين كقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(12) وقوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾(13) فوظيفةُ الأنبياء هي تبشير الناس برضوان الله تعالى لو اختاروا طريق الإيمان، ووظيفتُهم هي الإنذار والتحذير من سخط الله وعقوبته لولم يسلكوا طريق الإيمان، وينتهي دور الأنبياء عند ذلك وعلى الناس أنْ يختاروا بعد تعريفهم بالطريق القويم وحضِّهم على سلوكه وتحذريهم من تجاوزه والتخلُّف عنه.
وأمَّا الهداية بالنحو الثاني والتي تعني الإيصال للمقصد فهي خارجةٌ عن وظيفة الأنبياء بل هي خارجة عن قُدرتِهم، فالهدايةُ بهذا المعنى لا تكون إلا لله تعالى فهو القادر على التصرُّف في قلب الإنسان وسَوقه للهداية كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾(14) وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه﴾(15).
الجمع بين الآية من سورة القصص والآية من سورة الشورى:
وبذلك يتبيَّن عدم التنافي بين قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾(16) وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(17) فالرسولُ (ص) يهدي إلى صراطٍ مستقيم بمعنى أنَّه يُرشِد إلى الطريق المستقيم ويدلُّ عليه، فالهدايةُ المُسندة للرسول الكريم (ص) تعني الإراءة والبيان للطريق المستقيم، وأمَّا أنَّه لا يهدي مَن أحبَّ كما في الآية من سورة القصص فمعناه أنَّه غيرُ قادرٍ على أنْ يجعله مهديًّا مؤمنًا، فدورُه يتمحَّض في إرشاده وإراءته للطريق، وليس لديه القدرة على أنْ يجعل منه مصدِّقًا ومعتقدًا بأصول الإيمان وملتزِمًا بمقتضياته، ولذلك تجد أنَّ بعض الناس لم يُؤمنوا وأصرُّوا على غيَّهم وضلالِهم رغم أنَّ النبيَّ (ص) كان يحبُّ لهم الهداية كما يُحبُّها لجميع الناس، وقد عمِل جاهدًا على إرشاد الناس جميعًا إلا أنَّ فيهم مَن اختار الإيمان، وفيهم من ظلَّ على كفره وضلاله.
فهذا الذي ظلَّ على كفره وضلاله قد هداه النبيُّ (ص) بمعنى أنَّه أرشده وأراه الطريق القويم وهذا هو معنى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ فهو يهدي جميع الناس- دون استثناء- إلى الصراط المستقيم، ومعنى هدايته لهم هو إرشادُهم وتعليمهم والإيضاح لمعالم الطريق المُفضي والمؤدِّي للإيمان والصلاح.
وأمَّا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ فهو ليس بمعنى أنَّك لا تُرشد ولا تُبيِّن بل هو بمعنى أنَّه ليس في وُسعِك ومقدورِك أنْ تجعل منه مؤمنًا، فمعنى هذه الآية مساوقٌ لمعنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾(18) فرغم أنَّ النبيَّ (ص) مكلَّف بهداية جميع الناس كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾(19) فرغم أنَّه مسؤولٌ عن الهداية لكافَّة الناس لكنَّ هذه الآية تقول: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ ومعنى ذلك أنَّه ليس عليك إيصالهم إلى الإيمان والتصديق بالعقائد الحقَّة وإنَّما عليك هدايتهم بمعنى إرشادهم ووعظهم وإراءتهم لطريق الحقِّ، ولذلك جاء في تتمة الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ فالهداية المكلَّف بأدائها هي مِن نحو التبشير والإنذار والتي هي بمعنى الإراءة لطريق الحقِّ والحضِّ على الالتزام به والتحذير من تنكُّبه والتخلُّف عنه، وأما الهداية بمعنى الإيصال للإيمان بالحقِّ وجعلهم من أهلِه ومن المصدِّقين به فذلك ليس من مسؤولياتك ولستَ مكلَّفًا به لأنَّه خارجٌ عن قُدرتك، فهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ وهو معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.
ثم إنَّ هنا أمرين يحسنُ التنبيه عليهما:
الهدايةٌ عامَّةٌ وخاصَّة:
الأمر الأول: إنَّ الهداية الإلهيَّة المُسندة لله تعالى عامَّةٌ وخاصة، فالهدايةُ العامَّة التي تكون لعموم الناس دون استثناء هي الهداية بنحو الإراءة لطريق الحقِّ والتعريف به والإرشاد إليه بواسطة إرسال الرسل وإنزال الكُتب، وبواسطة ما أودع اللهُ في الإنسان من فطرةٍ وقدرةٍ على التفكير والتمييز بين الحقِّ والباطل، وبواسطة الآيات الكونيَّة الكاشفة بقليلٍ من التأمل على وجود الله ووحدانيته، فهذا النحو من الهداية يعمُّ جميع الناس كما قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ وقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ فالضميرُ في هديناه يعودُ على الإنسان، فمطلقُ الإنسان قد هداهُ اللهُ تعالى، بمعنى أنَّه بيَّن له طريق الإيمان والتوحيد والاستقامة.
ومن الآيات التي نصَّت على عموم الهداية الالهيَّة قوله جلَّ وعلا: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾(20) ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى﴾(21) فليس من أحدٍ من الناس إلا وقد جاءه الهدى من ربِّه، وقال تعالى: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾(22) فالقرآن هدىً لجميع الناس بمقتضى صريح الآية، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(23) فما من قومٍ إلا وقد هيئ اللهُ لهم سُبل الهداية. فهذه هي الهداية العامَّة والتي تعني الإراءة لطريق الحقِّ والإرشادَ إليه والحضَّ على التزامه والتحذيرَ من تنكُّبه والتخلُّفِ عنه.
الهداية الخاصَّة تكون لمَن استجاب للهداية العامَّة:
وأمَّا الهدايةُ الخاصَّة فهي التي تخصُّ مَن اختار الهداية العامَّة وقبِل بها واستجابَ إليها كما يدلُّ على ذلك مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(24) فهذه الهداية خاصَّة بمن اتَّبع رضوان الله تعالى، ومعنى ذلك أنَّه استجاب أولًا للهداية العامَّة التي جاءت من الله تعالى من طريق الفطرة والكتاب المبين أو كان مستعدًّا للاستجابة وحينئذٍ يمنحه اللهُ عزَّ وجل هدايةً أخرى غير الهداية التي اتَّبعها وإلا فلا معنى لأنْ يهديَه بعد أن اهتدى إلا أنْ تكون الهداية المتعقِّبة لاتباع رضوان الله غير الهداية الأولى. فهذه الهداية الثانية هي التي أفادها مثلُ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾(25) وقوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾(26) وقوله تعالى: ﴿آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾(27) فثمة هداية يمنحُها الله تعالى لمَن اهتدى، ومعنى ذلك أنَّ مَن قَبِل بالهداية العامَّة منحهُ الله تعالى هدايةً أخرى، فهذه الهداية الأخرى هي التي تكون خاصَّة.
منشأ وصف القرآنَ بأنَّه هدىً لخصوص المتقين:
ومن ذلك يتَّضح منشأ وصف الله تعالى القرآنَ بأنَّه هدىً لخصوص المتقين كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(28) فرغم أنَّ القرآن يهدي عموم الناس للتي هي أقوم لكنَّ الله تعالى وصفه في هذه الآية بأنَّه هدىً لخصوص المتَّقين، وهذا معناه أنَّ هذه الهداية التي يمنحُها بواسطة القرآن للمتَّقين غير الهداية العامَّة، وكذلك يُمكن استفادة هذا المعنى من مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(29) وقوله تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾(30) وقوله تعالى: ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾(31) وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾(32).
إذن فثمة هدايةٌ خاصَّة يمنحُها اللهُ جلَّ وعلا لمَن سلك طريق الهداية العامَّة، ومن ذلك يتَّضح معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾(33) وقوله تعالى: ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(34) وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾(35) يتَّضح ممَّا تقدَّم أنَّ هذه الهداية التي يمنحها الله تعالى لمَن يشاء ولمَن يريد هي الهداية الخاصَّة وإلا فإنَّ الهداية العامَّة مبذولةٌ لجميع الناس دون استثناء كما تقدَّم.
الهداية المنفيَّة عن الظالمين والفاسقين:
ومنه يتَّضح أيضاً معنى نفي القرآن الهداية الالهيَّة للظالمين والفاسقين والكافرين والكاذبين كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(36) وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(37) وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(38) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾(39) وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾(40) فإنَّ الهداية المنفيَّة عن هؤلاء الأصناف هي الهداية الخاصَّة وإلا فإنَّ الهداية العامَّة مُتاحةٌ لهم كما هي مُتاحةٌ لعموم الناس بل لعموم الثقلين.
معنى الهداية الخاصَّة:
بقي الكلام فيما هو المراد من الهداية الخاصَّة التي يمنحُها الله تعالى لمَن استجاب للهداية العامَّة فالظاهر أنَّ المراد منها هو التوفيق للثبات على الهداية العامَّة وذلك بمثل منحه المزيد من الاستعداد القلبي والعقلي لإدراك واستيعاب المعارف والحقائق والتفاعل معها كما يُستظهَر ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾(41) وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(42) وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾(43) فإنَّ الظاهر من شرح الصدر هو التوسيع من أفق الإنسان واستعداده الذهني والقلبي وهو ما يجعله أكثرَ أهليَّة لاستيعاب الحقائق والمعارف الإلهيَّة والاستجابة والإذعان لها، وأكثرَ أهليَّة لتلقِّي الرحمة والفيوضات الإلهيَّة والتفاعل معها، لذلك قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(44) فمَن شرحَ اللهُ صدره للإسلام فإنَّه يكون على بصيرةٍ ويشعُّ النورُ المعنويُّ في قلبه، وهو ما يُؤهِّله لدرك الحقائق والمعارف والإذعان لها والاستجابة لمقتضياتها، وعلى خلاف ذلك القلوب القاسيَّة الضيِّقة والمظلمة، فإنَّه لظلمتها وتضاقها الناشئ عن سوءِ اختيارها لا تكون قابلةً للاستيعاب والتسليم بالحقائق فهي في شكٍ وتَيهٍ دائم وارتيابٍ وضلالٍ وضياع.
ويقول اللهُ تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(45) أي ذلك التفاعل وذلك الخشوع وذلك الاطمئنان الذي -عبَّرت عنه الآية بلين القلب- هو الهداية الخاصَّة التي يمنحُها الله تعالى لمَن استجاب للهداية العامَّة لذلك قال تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾(46)، فالقلب الليِّن المُفعَم بالاطمئنان يكون مؤهَّلًا لأنْ يستقرُّ فيه الإيمان وينمو كما هو الشأن في الأرض المطمئنة والرخوة فإنَّها تكون قابلة لامتصاص الماء ومؤهَّلة لأنْ تستقرَّ فيها البذور وتنمو، وعلى خلاف ذلك الأرض المنحدرة والمتحجِّرة والقاسية فإنَّ الماء لا يستقرُّ فيها بل يمرُّ عليها فتصرفُه عن ظهرها فلا تكون قابلة لامتصاصه ولا تسقرُّ فيها البذور لتنمو.
فالهداية الخاصَّة تعني تأهيل القلب لتلقِّي الفيض والرحمة الإلهيَّة، فكلُّ القلوب تُفاض عليها الرحمة والمعارف والحقائق ومقتضيات الإيمان ولكنَّ بعضَها تكون قابلةً لتلقِّي هذا الفيض المعنوي والانتفاع به وبعضها لا تكون كذلك، فالقابليَّة للتلقِّي هي الهداية الخاصَّة المسبَّبة عن الاستجابة أو الاستعداد لقبول الهداية العامَّة.
المراد من الهداية التكوينيَّة:
الأمر الثاني: استعمل القرآنُ كلمة الهداية فيما يُعبَّر عنه بالهداية التكوينيَّة، والمقصود منها سير جميع الكائنات -حقيرها وخطيرها- نحو كمالها المقدَّر لها والغاية التي خُلقت لأجلها وفق نظامٍ وقانونٍ صارمٍ لا يتخلَّف هذا القانون قد تمَّ إيداعه في جِبلَّتها وطبيعتها، فالبذرةُ قد أودع اللهُ تعالى في تكوينها القابليَّة الذاتيَّة لأنْ تكون نبتة ثم تنمو فتصبح شجرة مورقة تُثمر نوعًا خاصًا من الثمار لا تُثمر غيره فبذرةُ التفاح لا تُخطأ بمقتضى تكوينها فتثمِر عنبًا أو رمانًا، ونطفة الإنسان لا يتخلَّق منها بمقتضى طبيعتها أرنبًا أو طيرًا، وهكذا هو الشأن في سائر الكائنات فكلُّ ذرَّة من ذرَّات هذا الكون مهديٌّ إلى كماله المقدَّر له بالهداية التكوينيَّة، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(47) فهو تعالى قد أودع في كلِّ شيء ما قدِّر له مِن كمال وهداه إلى السير وفق هذا الأمر المقدَّر له، وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(48) فهو تعالى قد كوَّن الكائنات وجهَّزها بنظامٍ ذاتيٍّ تتأهل به للسير نحو كمالها المقدَّر لها والغاية التي خُلقت لأجلها ثم ساقها نحو تلك الغاية فسَوْقُها نحو غايتها وفق النظام المقدَّر لها هو المراد من الهداية التكوينيَّة.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
17 / ربيع الأوّل / 1442هـ
3 / نوفمبر / 2020م
1- سورة القصص / 56.
2- سورة الشورى / 52.
3- سورة الإنسان/3.
4- سورة البلد / 10.
5- سورة الإسراء / 9.
6- سورة الجن / 1-2.
7- سورة النحل / 35.
8- سورة العنكبوت / 18.
9- سورة النحل / 44.
10- سورة النحل / 64.
11- سورة فاطر / 24.
12- سورة الأنعام / 48.
13- سورة الكهف / 56.
14- سورة الأنعام / 125.
15- سورة الزمر / 22.
16- سورة القصص / 56.
17- سورة الشورى / 52.
18- سورة البقرة / 272.
19- سورة سبأ / 28.
20- سورة يونس / 108.
21- سورة الإسراء / 94.
22- سورة البقرة / 185.
23- سورة الرعد / 7.
24- سورة المائدة / 15-16.
25- سورة محمد / 17.
26- سورة مريم / 76.
27- سورة الكهف / 13.
28- سورة البقرة / 2.
29- سورة الأعراف / 52.
30- سورة الأعراف / 154.
31- سورة لقمان / 3.
32- سورة فصلت / 44.
33- سورة الأنعام / 88.
34- سورة البقرة / 142.
35- سورة الحج / 16.
36- سورة البقرة / 258.
37- سورة التوبة / 80.
38- سورة التوبة / 37.
39- سورة غافر / 28.
40- سورة النحل / 37.
41- سورة إبراهيم / 27.
42- سورة العنكبوت / 69.
43- سورة الأنعام / 125.
44- سورة الزمر / 22.
45- سورة الزمر / 23.
46- سورة الأنعام / 88.
47- سورة طه / 50.
48- سورة الأعلى / 2-3.