﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أليست من الزيادة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى على لسان مريم (ع): ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾(1) إذا كان المسُّ بمعنى الجماع فهو يشمل الحلال والحرام، وعليه فلماذا قالت: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أليس ذلك من الزيادة بلا موجب؟

 

الجواب:

المسُّ في الآية وإنْ سِيق لغرض الكناية عن الجماع ولكنَّه الجماعُ الناشئ عن النكاح والزوجيَّة، ولذلك فهو لا يشملُ الجماع الناشئ عن البغاء والفجور، فإحدى الفقرتين –بناءً على ذلك– لا تُغني عن الأخرى، فلا تكون الفقرةُ الثانية من الزيادة، بل يكون مفاد الفقرتين هو أنَّه لم يمسَّها بشرٌ لا بنكاحٍ ولا بسفاح، ومن الواضح أنَّ عدم المسِّ بالنكاح لا ينفي المسَّ بالسفاح وكذلك العكس، ولذلك احتاجت أنْ تنفي المسَّ بالسفاح بعد نفي المسِّ بالنكاح.

 

والقرينة على أنَّ المراد من قولها: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ هو الكناية عن الجماع بالنكاح خاصَّة هو أنَّها عقَّبت هذا القول بقولها: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ فنفسُ قولِها: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ قرينةٌ على أنَّ مرادها من الفقرة الأولى هو المسُّ بالنكاح.

 

وأمَّا لماذا لم تجعل المسَّ في الفقرة الأولى كنايةً عن كلٍّ من النكاح والسفاح رغم قابليَّة هذا اللفظ لإفادة المعنيين؟

 

فالجواب هو أنَّه لمَّا كانت في مقام الدفع لمَن تمثَّل لها بشرًا سويَّا ونفي التهمة كان المناسب التفصيل وسدَّ باب الاحتمال، أو أنَّه لمَّا كانت في مقام استيعاب وفهم الخبر الصادم الذي أخبرها به الملَك وهو أنَّها ستُنجب ولدًا فإنَّ الذي جال في ذهنها -عند سماع الخبر من الملَك- هو أنَّه كيف تُنجب ولدًا والحال أنَّها ليست متزوِّجة وليست باغية، فهذا الذي جال في ذهنها عبَّرتْ عنه بلسانها فتصدَّى القرآنُ لحكايته لنا وأفاد أنَّها قالت إنَّه كيف تُنجب ولدًا ولم يمسَّها زوجٌ ولم تكن باغية.

 

جوابٌ آخر لنفي زيادة ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾: 

وثمة جوابٌ آخر لبيان منشأ الإتيان بفقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ وهو أنَّ قولها: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ أرادتْ منه العموم، يعني أنَّه لم يقربها بشرٌ مطلقًا بنكاحٍ أو سفاح ولكنَّها جاءت بفقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ من باب عطف الخاصِّ على العام لغرض التأكيد والتغليظ في النفي، وهذا الأسلوب من البيان متعارَفٌ كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾(2) فرغم أنَّ قوله: ﴿وَمَلَائِكَتِهِ﴾ يشمل جبريل وميكال لكنَّ الآية عطفت على الملائكة جبريل وميكال لتعظيم شأنهما وتأكيد أنَّ عداوتهما أشنعُ من عداوة سائر الملائكة لِما لهما من مقامٍ متميِّز عند الله تعالى، وكذلك فإنَّ مِن الآيات التي استعملت هذا الأسلوب من البيان قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾(3) فالصلاةُ الوسطى داخلة في الصلاة فتكون مشمولةً للأمر بالمحافظة عليها إلا أنَّ الآية عطفت الصلاةَ الوسطى على الصلوات للتأكيد والتعبير عن أنَّها تحظى بأهميَّةٍ تفوقُ الأهمية التي تحظى بها سائرُ الصلوات، وهكذا هو الشأن في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾(4) فقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾ يتضمَّن أنبياء أولي العزم إلا أنَّه ورغم ذلك نصَّت الآية عليهم بعد أنْ ذكرتهم ضمن عنوان النبيِّين وذلك للتعبير عن تميُّزِهم على سائر النبيِّين (ع).

 

كذلك فإنَّ السيِّدة مريم (ع) أرادت من قولها: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ رغم أنَّ الفقرة الأولى من كلامها مؤدِّية للغرض أرادت من ذلك التغليظ في النفي والتنزيه للنفس.

 

لماذا لم تُذكر فقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ في آل عمران:

قد يُقال: إذا كان الجواب هو ما تقدَّم فلماذا لم تُذكر فقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ في الآية من سورة آل عمران: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾(5) ألا يدلُّ ذلك على أنَّها زائدة وبلا موجب؟

 

فالجواب: إنَّ الآية من سورة آل عمران تتحدَّث ظاهرًا عن واقعةٍ أخرى غير الذي تتحدَّث عنه الآية من سورة مريم، فالآيات من سورة آل عمران تُخبرُ عن أنَّ عددًا من الملائكة جاؤوا فبشَّروا مريم بأنَّ الله تعالى سوف يرزقها مستقبلاً بولدٍ اسمُه المسيح عيسى (ع) قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ / وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ / قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(6) وأمَّا الآيات من سورة مريم فتتحدَّث عن ملَكٍ تمثَّل لها في صورة بشر فكان بينها وبينه الحوار الذي أخبرت عنه الآيات قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا / قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا / قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا / قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا / قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾(7).

 

فالظاهر أنَّ البشارة من الملائكة التي أخبرت عنها الآياتُ من سورة آل عمران وقعت قبل الواقعة التي أخبرت عنها الآيات من سورة مريم، فكانت البشارة التي أخبرت عنها الآيات من سورة آل عمران بمثابة التمهيد للواقعة التي وقعت لمريم بعد ذلك وأخبرت عنها الآياتُ من سورة مريم.

 

ويؤكِّد ذلك أنَّ الآيات من سورة آل عمران اكتفت ببيان أنَّ الملائكة بشَّروا مريم (ع) بأمرٍ سيقع لها في المستقبل، وأمَّا الآيات من سورة مريم فاشتملت على بيان فعليَّة وقوع هذه البشارة حيث ورد في ذيل الآيات بعد قوله: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ قوله تعالى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا﴾(8).

 

وأمَّا لماذا لم تشتمل الآيات من سورة آل عمران على فقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ فلآنَّ الآيات تحكي ما قالته مريم فهي في تلك الواقعة اكتفت بالقول: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ ولكنَّها أضافت فقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ في الواقعة الثانية لذلك أخبر القرآن عمَّا أضافته في الواقعة الثانية، ولعلَّ استغنائها في الواقعة الأولى عن فقرة: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ هو أنَّها كانت تُخاطب وتناجي ربَّها: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ فلم تكن بحاجة إلى التفصيل والتأكيد، وأمَّا قولها في سورة مريم: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ فكان خطابًا لمَن تمثَّل لها بشرًا لذلك كان من المناسب التفصيل والتأكيد كما اتضح مما تقدَّم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

20 / ربيع الأول / 1442هـ

6 / نوفمبر / 2020م


1- سورة مريم / 20.

2- سورة البقرة / 98.

3- سورة البقرة / 238.

4- سورة الأحزاب / 7.

5- سورة آل عمران / 47.

6- سورة آل عمران / 45-47.

7- سورة مريم / 17-21.

8- سورة مريم / 22.