مرجعُ الضمير في قوله تعالى: ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾(1) ما معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ وعلى مَن يرجع الضمير؟

 

الجواب:

اختلف المفسِّرون في معنى الآية وفي مرجع الضمير من قوله: ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ فذهب عددٌ منهم إلى أنَّ الضمير يرجعُ إلى موسى (ع) فيكون معنى الآية فلا تكنْ في مريةٍ وشكٍّ من لقاء موسى (ع) وقد أنجزَ الله تعالى لنبيِّه (ص) وعده فالتقى بموسى (ع) ليلة المعراج، وقد ورد في الروايات عن النبيِّ (ص) أنَّه قال: "رَأَيتُ لَيلةَ أُسْرِيَ بِي موسى بن عمرانَ رَجُلًا آدمَ طوالًا جعْدًا كأنَّه من رجَالِ شنوءَة"(2).

 

هذا بناءً على نزول الآية قبل المعراج، وأمَّا بناءً على نزولها بعد المعراج فمعنى الآية هو أنَّه لا تكنْ في شكٍّ ممَّا كان قد وقع لك من لقاء موسى ليلة المعراج، ولعلَّ الخطاب للنبيِّ (ص) سِيق على قاعدة "إيَّاك أعني واسمعي يا جارة" فهو واقعًا خطابٌ لبني إسرائيل ولعموم الناس بأنْ لا يكونوا في شكٍّ من وقوع لقاء النبيِّ (ص) لموسى (ع) ليلة المعراج، وقيل إنَّ معنى الآية هو أنَّه لا تكن في شكٍّ من لقائك موسى يوم القيامة.

 

فمرجعُ الضمير في هذه التفسيرات الثلاثة للآية هو موسى (ع) وفيها جميعًا يكون الضمير العائد على موسى (ع) في موقع المفعول به للقاء ويكون الفاعل هو المخاطَب وهو النبيُّ الكريم (ص) بحسب هذه التفسيرات.

 

والقول الثاني: هو أنَّ مرجع الضمير هو الكتاب والذي هو التوراة، وعليه يكون معنى الآية فلا تكن في مريةٍ من لقاء موسى (ع) للكتاب أي لا تكن في شكٍّ من تلقِّي موسى (ع) للكتاب، فمفعول اللِّقاء بناءً على هذا القول هو الكتاب والفاعل هو موسى (ع) فهو من تلقَّى الكتاب.

 

القول الثالث: هو أنَّ مرجع الضمير غير مذكور بل هو مُتصيَّد من سياق الآيات، فمرجعُ الضمير هو التكذيب والأذى والإعراض، وعليه فمعنى الآية فلا تكن في مريةٍ ممَّا كان قد لاقاه موسى من أذى قومه وإعراضهم عنه وتكذيبهم له، وفي ذلك تسليةٌ للرسول (ص) عمَّا يلقاه من أذى قومِه له وإعراضهم عن دعوته وتكذيبهم لنبوَّته.

 

ويُمكن تأييد عَوْد الضمير على هذا المعنى المتصيَّد من ملاحظة تمام الآية والتي قبلها قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ / وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(3).

 

فالآيةُ الأولى تُشنِّع على قوم النبيِّ (ص) لإعراضهم عن الآيات التي يُذكِّرهم بها وتصفهم بالمجرمين لما يقترفونه من الأذى للرسول (ص) ثم تصدَّت الآية الثانية لتسلية الرسول (ص) وذلك من طريق إخباره عمَّا وقع لنبيِّ الله موسى (ع) الذي آتاه اللهُ الكتاب كما آتاك فلاقى من قومِه ما تلقاه من قومك. فلا تحزن فإنَّه أُوذي كما أُوذيت ولقيَ من الإعراض والتكذيب ما تلقاه من الإعراض والتكذيب.

 

القول الرابع: هو أنَّ مرجع الضمير هو الكتاب كما هو القول الثاني إلا أنَّ فاعل اللقاء هو المخاطَب وهو النبيُّ الكريم (ص) كما في قوله تعالى: ﴿وإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(4) فمفاد الآية بناءً على ذلك هو أنَّه قد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مريةٍ من تلقِّيك الكتاب كما كان موسى (ع) قد تلقَّاه من قبلك، فالكتابُ بناءً على هذا التفسير هو جنس الكتاب -وليس هو التوراة- أو يكون المراد من الكتاب هو الكناية عن الوحي.

 

والآية سيقت لغرض التسلية للنبيِّ (ص) ورفع الاستيحاش عند المؤمنين بأنَّ إعراض الكافرين وتكذيبهم لم يكن بدْعًا، فنبيُّ الله موسى (ع) قد آتاه اللهُ الكتاب من قبلك فكذَّبه قومُه أو فريقٌ منهم وأعرضوا عنه وآذوه، فتكذيبُ هؤلاء المكابرين من قومك لنبوَّتك وإعراضهم عمَّا أُنزل إليك لا يُبرِّر المِريةَ ولا يُصحِّح التشكيك في أنَّك قد تلقَّيت الكتاب، فلا تعبأ بإعراضهم وتكذيبهم.

 

وإنَّما خصَّ موسى (ع) بالذكر لأنَّ المقصودين بالآية هم اليهود والنصارى والمشركين، فكلٌّ من اليهود والنصارى يُؤمنون بموسى (ع) وبالكتاب الذي أُنزلَ عليه، فكأنَّ الآية أرادت الاحتجاج عليهم بما يُؤمنون، فموسى (ع) قد لقيَ من قومِه والمعاصرين له إعراضًا وتكذيبًا فلم يكن ذلك مانعًا لكم من تصديقه والإيمان به فلماذا تتَّخذون من إعراض قوم النبيِّ (ص) عنه وسيلةً لبثِّ الارتياب في نبوَّته وصدق ما ينزل عليه من الكتاب، وكذلك هو احتجاجٌ على المشركين الذين يحتجُّون على النبيِّ (ص) بأنَّ أهل الكتاب لم يؤمنوا به فأفادت الآية بأنَّ هؤلاء الذين تحتجُّون بهم يؤمنون بموسى (ع) وبالكتاب الذي أُنزل عليه رغم أنَّه كان قد لقيَ إعراضًا وتكذيبًا من قومه فلم يكن إعراضُهم وتكذيبهم مانعًا من إيمان أهل الكتاب به.

 

وخلاصة هذا القول: إنَّ إعراض المكابرين من قومك قد وقع مثله في تاريخ الرسالات فلقد أرسلنا قبلك موسى وآتيناه الكتاب فلقي من إعراض قومه ما تلقَاهُ من قومك فلا تكن بسبب إعراضهم في مريةٍ من تلقِّيك الوحي والكتاب، فما تجده من إعراض قومِك قد ابتُلي به الأنبياء من قبلك، وتوجيه الخطاب للرسول (ص) بالنهي عن الشك سِيق لغرض تنبيه المؤمنين بأنَّه لا يصحُّ منكم الارتياب في تلقِّي الرسول (ص) للكتاب لمجرَّد إعراض المعاندين من اليهود والنصارى والمشركين.

 

مناقشة الأقوال الثلاثة:

وهذا القول هو الذي استظهره الفيضُ الكاشاني في زبدة التفاسير(5) وهو الأرجح والمناسب لمساق الآية، وأمَّا القول الأول فهو في غاية البُعد إذ لا تناسب عرفًا بين الإخبار عن إيتاء موسى الكتاب وبين مخاطبة النبيِّ (ص) بالنهي عن الشك في لقاء موسى ليلة المعراج أو في يوم القيامة، فالآيةُ ظاهرةٌ في أنَّ فقرة: ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ متفرِّعة ونتيجة للإخبار عن إيتاء موسى الكتاب، فأيُّ معنًى لتفريع النهي عن الشك في لقاء موسى ليلة المعراج على إيتاء موسى الكتاب؟!

 

وكذلك فإنَّ القول الثاني مخالفٌ للظاهر فإنَّ مقتضاه أنَّنا قد آتينا موسى الكتاب فلا تشك في أنَّنا قد آتيناه الكتاب، فإنَّ هذا المدلول أجنبيٌّ عن مساق الآيات، فلم يسبق من الآيات الحديث عن التشكيك في تلقِّي موسى للكتاب.

 

وأمَّا القول الثالث فمضافًا إلى أنَّه خلاف الأصل -إذ أنَّ الأصل هو رجوع الضمير على مذكور- فإنَّه بلا موجب، وذلك لإمكان رجوع الضمير على مذكور مع استقامة الكلام كما اتَّضح ممَّا تقدَّم في القول الرابع، على أنَّه لا يخلو من تكلُّف، إذ لا معنى للنهي عن الشكِّ في الأذى والإعراض من قومه والحال أنَّه يرى ذلك منهم عيانًا وبالوجدان.

 

ما احتمله صاحب الميزان من معنى الآية:

هذا وقد احتمل السيِّدُ العلامة الطباطبائي صاحب الميزان(6) رجوع الضمير في قوله: ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ على الله جلَّ وعلا، ويكون المقصود من لقاء الله تعالى هو يوم البعث، وقد عبَّرت آيةٌ أخرى -سبقت هذه الآية بقليل- عن يوم البعث بلقاء الله، قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾(7).

 

ولو تمَّ هذا الاحتمال فسيكون معنى الآية هو أنَّه قد آتينا موسى الكتاب وقد اشتمل على الإخبار بلقاء الله يوم البعث كما اشتمل القرآن على ذلك فلا تكن في مريةٍ من البعث، فقوله: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ سيق لغرض تأييد ما أُنزل على النبيِّ (ص) -من الإخبار بالبعث- بما كان قد نزل في التوراة على موسى (ع) فالآياتُ التي سبقت هذه الآية قد اشتملت على التبشير للمؤمنين بالجنَّة في اليوم الآخر، والوعيد بالنار والعذاب والانتقام من المجرمين قال تعالى: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ..﴾(8) وقال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾(9) إلى قوله: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾(10) فبعد أنْ أخبرت الآيات عن يوم البعث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ وذلك لإفادة أنَّ ما أخبر به القرآن عن يوم البعث هو ذاته الذي أنزله الله على موسى في التوراة فلا تكن في مريةٍ من يوم البعث فإنَّ ذلك هو المأثور فيما أنزله اللهُ على الأنبياء الذين سبقوك، فالآية بصدد تأييد ما جاء في القرآن بما جاء في التوراة، وقد أيَّد اللهُ تعالى في العديد من المواضع ما أنزله على النبيِّ (ص) في القرآن بما أنزله في التوراة كقوله تعالى ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾(12) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ / بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾(13).

 

ثم إنَّ صاحب الميزان (رحمه الله) احتمل أنْ يكون المراد من لقائه هو لقاءُ الله بمعنى الاتِّصال به جلَّ وعلا من طريق الوحي ولكن ليس هو الوحي بجميع أنحائه ومراتبه بل هو الوحي الذي يتحقَّق به الانقطاع التامُّ لله جلَّ وعلا، ولعلَّه قصد من ذلك الوحيَ بالمشافهة كالذي وقع لموسى (ع) حين كلَّمه ربُّه، ولعلَّ ذلك هو منشأ تصدير الآية بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ فمفاد قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ﴾ هو أنَّه لا ريب في أنَّك تلقَى الله حين وحي القرآن فيكون ما ورد في هذه الفقرة من الآية رجوعًا لما ورد في صدر السورة المباركة: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(14) ثم إنَّه رجّح هذا الوجه على سابقه ومنشأ الترجيح -كما أفاد- هو ما ورد في ذيل الآية وهو قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي جعلنا الكتاب والذي هو التوراة هدًى لبني إسرائيل، وهذا لا يناسب أن يكون الضمير في قوله: ﴿مِنْ لِقَائِهِ﴾ يرجع إلى البعث نعم هو مناسب لكون اللقاء هو اللَّقاء لله بالوحي.

 

فيكون مؤدَّى الآية ولقد أوحينا إلى موسى الكتاب وجعلناه هدًى لبني إسرائيل فلا تكن في مريةٍ من لقائك لله حين وحي القرآن أي لا ريبَ في أنَّك تتلقى القرآن من ربِّ العالمين.

 

والظاهر أنَّ هذا الاحتمال الثاني الذي أفاده صاحب الميزان (رحمه الله) يرجعُ في المآل إلى القول الرابع وأنَّ مرجع الضمير هو الكتاب بمعنى الوحي الذي يتحقَّق به لقاء الله جلَّ وعلا.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

25 / ربيع الآخِر / 1442هـ

11 / 12 / 2020م


1- سورة السجدة / 23.

2- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج8 / ص111.

3- سورة السجدة / 22-23.

4- سورة النمل / 6.

5- زبدة التفاسير -الفيض الكاشاني- ج5 / ص326.

6- الميزان -الطباطبائي- ج16 / ص265.

7- سورة السجدة / 11.

8- سورة السجدة / 19.

9- سورة السجدة / 20.

10- سورة السجدة / 22.

11- سورة يونس / 94.

12- سورة آل عمران / 50.

13- سورة النحل / 43-44.

14- سورة السجدة / 2.