معنى قوله تعالى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى قوله تعالى لموسى (ع): ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾(1)؟

 

الجواب:

جَناحُ الإنسان يدُه وإطلاق الجناح عليها من التشبيه بجناحي الطائر حيث هما بمثابة اليدين للإنسان، ومعنى الرهب هو الخوف.

 

بيان ما أفاده عددٌ من المفسِّرين:

ومفاد الفقرة المذكورة من الآية الشريفة بحسب ما أفاده عددٌ من المفسِّرين هو أنَّ موسى (ع) بعد أنْ ارتاع من مشاهدة انقلاب العصا إلى حيَّة وبسط يديه اتقاءً منها كما مقتضى طبع الإنسان حين مواجهة الخطر حينذاك خاطبه الله تعالى بقوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ أي اضمم يديك إلى جنبك أو صدرك، ولا تخف فإنَّك آمن ولن يصلَ إليك منها ضررٌ.

 

أو يكون مفاد الفقرة المذكورة هو إرشاد موسى (ع) إلى أنَّه كلَّما انتابك خوفٌ حين انقلاب العصا إلى حيَّة فاضمُم يديك إلى صدرك بأنْ تُدخل اليُسرى تحت عضد اليمنى وتُدخل اليمنى تحت عضد اليسرى فبذلك يسكُن خوفك فقوله: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ متعلِّق بقوله: ﴿وَاضْمُمْ﴾ أي واضمم من أجل الخوف يديك إلى صدرك أو أنَّ الجار والمجرور متعلِّق بمحذوف فعل تقديره "يسكن" أي يسكن من الرهب. فكأنَّ هذه الفقرة من الآية أرادت الإرشاد إلى أنَّ ضم اليدين إلى الصدر يُسهم في الشعور بالاستقرار والاطمئنان.

 

إشكال السيِّد الطباطبائي (رحمه الله):

والذي يردُ على هذا التفسير بتقريبيه -كما أفاد صاحبُ الميزان(2)- أنَّه مبنيٌّ على أنَّ هذه الفقرة هي من تتمَّة قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ﴾(3) فلو كان الأمر كذلك لما ناسب فصل هذه الفقرة بقوله تعالى: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾(4) أي أنَّ المناسب -لو صحَّ التفسير المذكور- هو أنَّ تأتي هذه الفقرة، وهي قوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ بعد قوله: ﴿أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ﴾ لا أنْ يتمَّ الفصلُ بينها وبين قوله: ﴿أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ..﴾ بفاصلٍ أجنبي وهو قوله: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾.

 

بيانٌ آخر لمدلول الآية:

وثمة بيانٌ آخر لمدلول قوله تعالى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ وهو أنَّ الله تعالى بعد أن منحَ موسى (ع) ما يحتجُّ به لإثبات نبوَّته من انقلاب عصاه إلى حيَّةٍ تسعى وتمكينه من تصيير يده بيضاء من غير سوء أرشده بعد ذلك إلى أنْ يشدَّ العزم ويتحلَّى بالثبات فلا يَظهر على محيَّاه اضطرابٌ أو خشية حين تبليغ الرسالة فقوله: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ كناية عن الأمر بالثبات والتجلُّد وضبط النفس وعدم الظهور في مظهر المتردِّد أو الخائف بل هو الظهور في مظهر الواثق المطمئن، فليس معنى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ هو الأمر بضمِّ اليدين إلى الصدر أو الجنب بل هو الأمر بعقد العزم والثبات والظهور في مظهر المطمئن، فلأنَّ الطائر إذا خافَ نشرَ جناحيه وإذا اطمئن ضمَّهما إلى جنبه لذلك استعارت الآيةُ هذه الصورة للكناية بها عن الأمر بالثبات والاطمئنان تمامًا كما يُقال للخائف "اسكُن" فليس المقصود من الأمر بالسكون هو الأمر بتجميد الجوارح والأطراف عن الحركة بل المقصود من الأمر بالسكون هو الأمر بالاطمئنان وترك الخوف كذلك هو الشأن في قوله ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ فإنَّه من الأمر بالظهور في مظهر المطمئن الواثق وذلك في مقابل المضطرب الخائف، فالآية - ظاهرًا تأمرُ موسى (ع) بالثبات والاستقرار في المواطن التي تبعثُ بطبعها على الرهبة والخوف.

 

ولعلَّ قوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ مؤيِّد لإرادة هذا المعنى، فيكون مفاد الآية لا تخشَ وكن واثقًا فإنَّ تحتَ تصرُّفك برهانين من ربِّك.

 

ما استقربَه السيِّدُ الطباطبائي والجوابُ عليه:

واحتمل العلامة صاحب الميزان (رحمه الله)(5) أو استقربَ أنْ يكون المراد من قوله تعالى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ هو الكناية عن الأمر بالظهور في مظهر الخاشع المتواضع فإنَّ عادة المتكبِّر أنْ يُباعد حين المشي عضديه عن جنبيه بخلاف الخاشع والمتواضع فإنَّ عضداه تكونان عادةً منضمَّتين إلى جنبيه، فالأمر بضمِّ الجناحين إلى الجنبين لا يُراد منه إلصاق اليدين إلى الجنبين بل المراد منه الكناية عن الأمر بالتحلِّي بالخشوع والتواضع أي أنَّ الآية استعارت هذه الصورة للكناية بها عن الأمر بالخشوع والتواضع فيكون مفاد الآية يُشبهُ مفاد قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(6) أي تواضع لهم.

 

إلا أنَّ إرادة هذا المعنى من الآية مستبعدٌ ظاهرًا، إذ لو كان المراد من الأمر بضمِّ الجناحين هو الكناية عن الأمر بالتواضع لم يكن معنى لقوله: ﴿مِنَ الرَّهْبِ﴾ فالمناسبُ للأمر بضمِّ الجناحين من الرهب هو الكناية عن الأمر بالاطمئنان وعدم الخوف وعدم الظهور في مظهر المتردِّد أو المضطرب، على أنَّ سياق الآيات وكونُها بصدد الإرشاد لموسى بما ينبغي أنْ يكونَ عليه حين تبليغ الرسالة لفرعون -والذي هو سلطانٌ عسوف- يُناسب الأمر بالثبات والاطمئنان، إذ أنَّ الحضور في محضر مثل هذا الجبار -وتبليغه بما يكره وبما يستنكفُ منه- يبعثُ بطبعه على الرهبة، فالمناسب لذلك هو الأمر بالاطمئنان ورباطة الجأش والظهور في مظهر الواثق وليس في مظهر الخاشع المتواضع فإنَّ ذلك إنَّما يكون مناسبًا لو كانت الآيات بصدد إرسال موسى (ع) إلى المستضعفين من الناس وليس إلى فرعون وملئه كما قال تعالى: ﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ فظهورُ قوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في الأمر بالتواضع نشأ عن أنَّ موضوع الأمر بخفض الجناح هم الأتباع من المؤمنين، وأمَّا موضوع الأمر بضمِّ الجناح في الآية فهو مَواطِنُ الرهبة والتي تقتضي التطمين والأمر بالثبات، ولهذا قال تعالى في موضعٍ آخر مخاطبًا موسى (ع): ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾(7) فإنَّ الغرض من وصف الله تعالى له بالأعلى هو تطمينه وبعث الاستقرار والسكون في قلبه لأنَّ ذلك هو المناسب لمثل هذا المحضر.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

1 / جمادى الأولى / 1442هـ

16 / 12 / 2020م


1- سورة القصص / 32.

2- الميزان -الطباطبائي- ج16 / ص34.

3- سورة القصص / 31.

4- سورة القصص / 32.

5- الميزان -الطباطبائي- ج16 / ص34.

6- سورة الشعراء / 215.

7- سورة طه / 68.