﴿فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ لماذا تمَّ الجمع بينهما في الآية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾([1]) ما الفرق بين اليأس والقنوط في الآية الشريفة ولماذا جمع بينهما لو كانا بمعنىً واحد؟
الجواب:
اليأس والقنوط في الآية بمعنًى واحد:
يظهر من كلمات الكثير من المفسِّرين -استناداً إلى ما أفاده اللُّغويُّون- أنَّ اليأس والقنوط في الآية بمعنًى واحد والجمع بينهما إنَّما جاء لإفادة المبالغة في التوكيد، فالآية قد اشتملتْ على أسلوبين للتوكيد:
الأول: هو استعمال صيغة "فَعول" والذي هو من صِيغ المبالغة، فاسمُ الفاعل يائس وقانط فإذا أُريد المبالغة قيل يئوس وقنوط كما يقال للجاهل -المتمادي في جهله- جهول، ويقال للحاسد المطبوع على الحسد حسود، ولكثير الأكل أكول.
الثاني: هو الجمع بين كلمتين مترادفتين أي أنَّهما يؤدِّيان معنىً واحداً، وهو من أساليب التوكيد، كما يُقال: زيدٌ سخيٌّ جواد، وخالد جبانٌ رعديد، ويُمكن أنْ يمثَّل لذلك من القرآن بقوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾([2]) فإنَّ كلمة: ﴿كُلُّهُمْ﴾ مرادفة لكمة: ﴿أَجْمَعُونَ﴾ والجمع بين الكلمتين في سياقٍ واحد جاء لإفادة التوكيد.
وكذلك يُمكن التمثيل بما أورده الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده عن عبد الله بن مسعود عن النبيِّ (ص) أنَّه قال: ".. أمَا إنَّهم إنْ أطاعوه -يعني عليَّا (ع)- دخلوا الجنَّةَ أجمعون أكتعون"([3]). فإنَّ كلمة "أكتعون" مرادفة لكلمة "أجمعون" جيء بها للتأكيد
وورد عنه (ص) أنَّه قال: "لَتَدْخُلُنَّ الجنَّةَ أَجمعون أَكتعون إِلا من شَرَدَ على الله"([4]) أَي خرج عن طاعته، فكلمة "أكتعون" جاءت لتأكيد "أجمعون".
وفي حديث آخر من طرق العامَّة أيضًا: "إنّ في الجنَّة شجرةٌ .. فمن مات من الصبيان الذين يرضعون، رضعوا منها أجمعون أكتعون أبصعون"([5]).
وخلاصة القول الذي أفاده الكثير من المفسِّرين هو أنَّ كلمة قنوط مرادفة لكلمة يئوس وإيرادهما في سياقٍ واحد جاء لغرض التأكيد.
دعوى الفرق بين اليأس والقنوط ومناقشتها:
وفي مقابل ذلك ذهب آخرون بأنَّ ثمة فرقًا بين كلمتي اليأس والقنوط، فاليأسُ يعني انقطاع الرجاء في النفس من حصول المقصود واستحكام الشعور بانسداد باب الأمل والتوقُّع، فاليأس من النصر مثلًا يعني الجزم بأنْ لا أمَلَ مطلقًا في تحقُّق النصر والظفر، فاليأس من أفعال النفس محضًا وإنْ كان قد ينشأ عن مبرِّرات خارجيَّة.
وأمَّا القنوط فهو المرتبة الشديدة من اليأس أو قل هو أعلى مراتب اليأس. إلا أنَّه قد يقال إنَّ هذا التفريق غيرُ قابلٍ للتصوُّر، فإنَّه مع انقطاع الرجاء والتوقُّع، والجزم بانسداد باب الأمل لا تكون ثمة مرتبة لليأس تفوقُ هذه المرتبة، نعم لو قيل إنَّ اليأس هو تضاؤل الرجاء والتوقُّع وانخفاض مستوى الأمل لأمكن القول بأنَّ القنوط أشدُّ مرتبةً منه إذا كان بمعنى الانقطاع التامِّ للرجاء لكنَّ الدعوى ليست كذلك، فالدعوى هي أنَّ اليأس يعني انقطاع الرجاء، فمتى ما كان الرجاء موجودًا ولو كان في أدنى مراتبه فاليأسُ غير موجود، ومتى ما تحقَّق اليأس لم يكن ثمة رجاء، فاليأس هو انعدام الرجاء، فما هو معنى القنوط؟! أليس هو انعدام الرجاء أيضًا؟. فدعوى التفاوت بينهما في المرتبة غير قابلةٍ للتصوُّر.
وبتعبيرٍ آخر: إنَّ تعريف اليأس حيث تمَّ بأمرٍ عدمي وهو انقطاع الرجاء وانعدامه فإنَّ ذلك يقتضي أن لا تكون له مراتب متعدِّدة يشتدُّ ويضعف فيكون يأسًا عندما يضعف وقنوطًا عندما يشتد، فإنَّ العدم ليست له مراتب فهو ليس كالأمر الوجودي القابل للتفاوت والاشتداد والضعف.
الاحتمالات المتصوَّرة للفرق بين اليأس والقنوط:
وعليه فإمَّا أنْ يُلتزم بأنَّ اليأس هو القنوط كما هو القول الأول وأنَّهما لفظان مترادفان يؤدِّيان معنىً واحداً وهو انعدام الرجاء أو يُلتزم بأنَّ القنوط أشدُّ من اليأس، ولكنَّ اليأس ليس بمعنى انقطاع الرجاء وانعدامه بل هو بمعنى تضاؤل الرجاء حتى كأنَّه لا رجاء وحينئذٍ يصحُّ أنْ يقال إنَّ القنوط أشدُّ من اليأس بناءً على أنَّ معناه -أي القنوط- الانعدام التام للرجاء.
أو يُقال إنَّ اليأس هو ذهول النفس عن الرجاء والتوقُّع لحصول المقصود، وأمَّا القنوط فهو استحضار النفس لليقين بانقطاع الرجاء وانعدامه، فلو كان ذلك هو الفرق بين اليأس والقنوط لصحَّ أنْ يُقال إنَّ القنوط أشدُّ من اليأس، إذ أنَّ الذهول عن الرجاء لا يُلازم خلوَّ النفس عن الرجاء بل غالبًا ما يكون موجودًا ولكنَّه لضآلته يكون مغفولًا عنه، وعليه يكون القنوط هو استحكام حالة الشعور بانقطاع الرجاء، وأمَّا اليأس فهو الاقتراب من هذه الحالة دون أنْ يكون اليائس قد وصل إليها، فبناءً على ذلك يكون القنوط أشدَّ من اليأس.
أو يُقال إنَّ القنوط هو اليأس في النفس المصاحب للتصريح باللسان أو الفعل كالانهيار والانكسار أو التعبير عن الاستسلام أو ترتيب آثار انقطاع الرجاء، فمَن ظهرت عليه آثار اليأس فهو قانط، ومَن لم تظهر عليه آثار اليأس رغم انقطاع الرجاء في نفسه فهو يائس ولكنَّه ليس قانطًا، فلو كان ذلك هو الفرق بين اليأس والقنوط لصحَّ أنْ يُقال إنَّ القنوط أشدُّ من اليأس إلا أنَّه بناءً على ذلك سوف يكون معنى القنوط هو اليأس وشيئًا آخر، وليس هو مرتبة شديدة من اليأس كما هو المدَّعى.
وكيف كان فلو كان القنوط أشدَّ من اليأس لكان الغرض من الجمع بينهما في الآية هو إفادة الترقِّي، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ هو أنَّه إن أصابته نائبة فهو يئوس بل هو قنوط كما يقال مثلًا إنَّ من ترك الصلاة فهو فاسق كافر أي هو فاسق بل هو كافر.
القرينة على اتِّحاد معنى اليأس والقنوط:
والظاهر أنَّه لا فرق بين اليأس والقنوط فكلٌّ منهما يعني انقطاع الرجاء كما يتضح ذلك من موارد استعمال اللفظين، فمثلًا قوله تعالى يصف من حال إخوة يوسف بعد أنْ لبست أخاهم التهمة بسرقة صواع الملك: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾([6]) أي لمَّا انقطع رجاؤهم في خلاص أخيهم من التُّهمة التي لبسته، وكذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾([7]) أي انقطع رجاؤهم في القدرة على استئصاله، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾([8]) أي يئسوا من النجاة وانقطع رجاؤهم في الخلاص كما انقطع رجاء الكفار في عودة الموتى إلى الحياة.
وهذا المعنى لليأس هو ذاته المعنى المستفاد من كلمة القنوط في مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا﴾([9]) أي من بعد أن انقطع رجاؤهم من نزوله وكذلك هو معنى القنوط في قصة البشرى بالغلام التي حملتها الملائكة لإبراهيم (ع): ﴿قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾([10]) فمعنى قولهم: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ﴾ هو أنَّه لا ينبغي أنْ ينقطع رجاؤك في الانجاب لمجرَّد تقدُّمك في السِّنِّ.
ويُؤيِّد ما ذكرناه من أنَّ اليأس هو ذاته القنوط -مضافًا إلى ما تقدَّم- أنَّ القرآن استعمل تارةً كلمة القنوط وتارةً كلمة اليأس في قضيةٍ واحدة وهو ما يكشف عن أنَّهما لفظان لمعنىً واحد قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾([11]) وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾([12]) فالآيتان متصدِّيتان لبيان قضيةٍ واحدة وهي الحالة التي تنتاب الإنسان إذا أصابته المصيبة فعبَّر عن هذه الحالة في الآية الأولى بالقنوط وعبَّر عنها في الآية الثانية باليأس وهو ما يؤكد أنَّهما لفظان لمعنىً واحد.
وهذه القضية هي ذاتها التي تصدَّت لبيانها الآية التي نبحث عنها وهي قوله تعالى: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ فجمعت بين اليأس والقنوط وأفادت أنَّهما الحالة التي تنتاب الإنسان حينما يمسُّه الشر وتقع عليه مصيبة وهو ما يؤكِّد أنَّ معنى اليأس هو ذاته معنى القنوط وإنَّما تمَّ الجمع بين اللفظين للمبالغة في التأكيد كما أفاد الكثيرُ من المفسِّرين إنْ لم يكن الأكثر.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
15 / جمادى الآخِرة / 1442هـ
29 / يناير / 2021م
[1]- سورة فصلت / 49.
[2]- سورة الحجر / 30.
[3]- الأمالي-الطوسي- ص307.
[4]- المحاضرات والمحاورات -السيوطي- ص335.
[5]- النهاية في غريب الحديث -ابن الأثير- ج2 / ص457.
[6]- سورة يوسف / 80.
[7]- سورة المائدة / 3.
[8]- سورة الممتحنة / 13.
[9]- سورة الشورى / 28.
[10]- سورة الحجر / 52-56.
[11]- سورة الروم / 36.
[12]- سورة الإسراء / 83.