المرجع عند اختلاف القراءات
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
سماحة الشيخ
لو افترضنا أنَّ بعض الرواة للقراءات ثقاة وبعضهم فسقة، وتعارضت القراءتان في دلالتهما على الحكم الشرعي، فهل نرجِّح الراوي الثقة أم تتساقطان لكون القراءات السبع قد أقرَّ المعصوم القراءة بها كلها ونرجع للمرجِّحات في باب التعارض؟
ولنأخذ مثالًا بالآية: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾([1]).
١- هل نرجِّح القراءة التي راويها ثقة؟
٢- إذا كان لا مجال لترجيح قراءة على قراءة في حالة التعارض؛ ولدينا رواية تُفيد إباحة مقاربة الزوجة إذا طهرت دون حاجة للاغتسال، هل هذا يدلِّل على صحة القراءة بتخفيف الطاء في يطهرن؟
٣- لو لم تردنا رواية؛ هل نلجأ للأصل اللفظي أم العملي؟
الجواب:
القرَّاء في موارد الاختلاف مجتهدون:
القرَّاء السبعة لم يكونوا في موارد اختلاف القراءة رواة بل كانوا مجتهدين أو أخذوها عن مجتهدين، وعليه فحتى لو وصلتنا قراءة بعضهم بطريقٍ معتبر فإنَّها لا تكون حجَّة بمعنى جواز الاستناد إليها لإثبات حكم شرعيٍّ أو نفيه، على أنَّ هذا الفرض لا مورد له فالقراءات السبع كلُّها محرزة الانتساب إلى قرَّائها، ولذلك تصحُّ القراءة بكلٍّ منها، لإمضاء أهل البيت (ع) القراءة بها.
مناط الاستناد إلى أيِّ قراءةٍ:
وأمَّا جواز الاستناد إلى أيِّ قراءةٍ لإثبات أو نفي حكم شرعي فذلك منوطٌ بإحراز أنَّ هذه القراءة هي التي نزلت على قلب رسول الله (ص) إذ لم ينزل القرآن إلا بقراءة واحدة، فثبوت أنَّ هذه القراءة أو تلك هي التي نزل بها القرآن إنَّما يتمُّ من طريق إثبات أنَّ النبيَّ (ص) قد قرأ بها أو إخبار الإمام (ع) أنَّ الآية قد نزلت بهذه القراءة، وفيما عدا ذلك لا تكون القراءة حجَّة إلا من جهة صحَّة القراءة بها نظرًا للإمضاء الصادر عن أهل البيت (ع).
وعليه فلو اختلف القرَّاء في قراءة آيةٍ من الآيات وكان الاختلاف مؤثِّرًا في المعنى فإنَّ كلا القراءتين أو القراءات لهذه الآية تكون ساقطة عن الحجِّية بقطع النظر عن وثاقة القرَّاء أو ضعفهم لأنَّهم جميعًا مجتهدون أو أخذوا عن مجتهدين أو لا أقلَّ من عدم إحراز أيِّ القراءتين كانت اجتهادًا وأيِّها كانت رواية متَّصلة إلى النبيِّ (ص) نعم لو طابقت إحدى القراءات ما ورد عن أهل البيت (ع) أنَّها قراءة النبيِّ (ص) أو قراءة عليِّ(ع) - والتي هي قراءةُ النبيِّ (ص) بالمآل- فإنَّها تكون معتمَدة وصالحة لإثبات أو نفي حكمٍ شرعي، وصلاحيتُها لإثبات الحكم الشرعي ليس لأنَّها إحدى القراءات السبع أو العشر بل لثبوت أنَّها القراءة التي نزلت على قلب رسول الله (ص) بحسب الفرض.
الاختلاف المؤثر بين القراءات في غاية الندرة:
هذا في موارد الاختلاف بين القراءات والتي محدودة بل هي في موارد الاختلاف المؤثِّر في المعنى والمفضي لتبدُّل الحكم الشرعي في غاية الندرة، وأمَّا القراءة المتوافق عليها بين القرَّاء -والتي هي الحالة الغالبة غلبةً ساحقة- فإنَّ هذه القراءة تكون حجَّةً بمعنى صحَّة الاستناد إليها لإثبات الحكم الشرعي، وذلك للقطع بأنَّ القراءة المتوافَق عليها هي القراءة التي نزلت على قلب رسول الله (ص).
وثاقة القارئ أو ضعفه غير مؤثر في الترجيح:
وممَّا ذكرناه يتَّضح الجواب عن السؤال الأول وأنَّ افتراض وثاقة بعض القرَّاء وضعف بعضهم لا يُصحِّح ترجيح قراءة الثقة على قراءة الضعيف لا من جهة صحة الاستناد إليها لإثبات الحكم الشرعي ولا من جهة صحة القراءة بها، أمَّا الجهة الأولى فلأنَّ كلا القراءتين نشأت عن اجتهاد، وأمَّا الجهة الثانية فلأنَّ مستند صحَّة القراءة بأيِّ القراءات هو الإمضاء وهو ثابتٌ لمجموع القراءات بقطع النظر عن أحوال قرَّائها فلا ترجيح لقراءة الثقة على غير الثقة بل تصحُّ القراءة بقراءة كلٍّ منهما وبقراءة غيرهما من سائر القرَّاء السبعة.
المرجع عند اختلاف الروايات المعتبرة في القراءة النازلة:
نعم لو وردت من طرقنا روايتان ظنيَّتان معتبرتان سندًا واشتملت إحداهما على الإخبار بأنَّ القراءة النازلة لهذه الآية هي بهذه الكيفيَّة، واشتملت الرواية الثانية على كيفيَّةٍ أخرى وكان الاختلاف مؤثِّرًا في تبدُّل الحكم، ففي مثل هذا الفرض قد يُقال بسقوط كلا الروايتين عن الحجيَّة من جهة الدليليَّة على الحكم الشرعي، فلا تصلح كلا الروايتين لإثبات أو نفي حكمٍ شرعي، ولا يصحُّ في مثل هذا الفرض ترجيح إحدى القراءتين بمرجِّحات باب التعارض لأنَّ أدلة مرجِّحات باب التعارض واردة لمعالجة الأخبار المتعارضة، فمن غير المحرَز شمولها لمثل هذا الفرض، إذ أنَّ مؤدَّى التعارض بين الروايتين في مثل هذا الفرض هو التعارض بين قراءتين للآية القطعيَّة الصدور، فمع عدم شمول روايات الترجيح بالمرجِّحات لهذا الفرض لا يكون لدينا ما يُصحِّح الترجيح بمرجِّحات باب التعارض
إلا أنَّ ذلك لا يصحُّ فإنَّ الآية وإنْ كانت قطعيَّة الصدور إلا أنَّ قراءتها في فرض الاختلاف ظنِّية وعليه لا يكون ثمة ما يمنع من شمول روايات مرجِّحات باب التعارض لمثل الفرض لأنَّ مآل اختلاف الروايتين فيما هي القراءة النازلة هو الاختلاف فيما هو الحكم الواقعي، فمفاد الرواية الأولى هو الإيجاب مثلًا ومفاد الرواية الثانية هو الحرمة أو مفاد الأولى الصحَّة ومفاد الثانية الفساد، فلو كانت إحدى الروايتين واجدة لإحدى مرجِّحات باب التعارض المنصوصة فإنَّ مقتضى إطلاق روايات مرجِّحات باب التعارض هو ترجيحها وسقوط الرواية الأخرى عن الحجِّية، نعم مع افتراض فقدان كلا الروايتين لشيء من مرجِّحات باب التعارض تسقط كلا الروايتين عن الحجيَّة ويكون المرجع حينئذٍ هو الإطلاقات المعبَّر عنها بالأصول اللفظيَّة ومع عدمها يكون المرجع هو الأصول العمليَّة والتي تختلف بحسب اختلاف الموارد.
بقيَ في المقام فرضيتان:
تواتر الروايتين المختلفتين في الإخبار عن القراءة النازلة:
الفرضيَّة الأولى: أن تردَ علينا روايتان متواترتان وتكون إحداهما مشتملةً على الإخبار بأنَّ هذه الآية نازلة بهذه الكيفيَّة، وتكون الرواية الثانية مشتملةً على الإخبار بأنَّ الآية نفسها نازلة بكيفيَّةٍ أخرى وافتُرض بأنَّ كلَّ قراءةٍ من القراءتين تدلُ على حكمٍ منافٍ للحكم الذي تدلُّ عليه القراءة الأخرى.
وهذا الفرض غير قابلٍ للتحقُّق، وذلك لاستلزامه القبول بأنَّ القرآن نزل بأكثر من قراءة وهو باطل قطعًا، فالقرآن لم ينزل إلا بقراءةٍ واحدة، إلا أنَّه مع القبول جدلًا بتحقُّق هذا الفرض فإنَّه يتعيَّن سقوط كلا الروايتين عن الحجَّيَّة من جهة الدليليَّة على الحكم الشرعي، إذ أنَّه ليس لله في كلِّ واقعة إلا حكمٌ واحد، فأحدُ الحكمين المستفادين من القراءتين ليس واقعيًا قطعًا، وحيث إنَّ الروايتين متكاذبتان فلا سبيل للعمل بأيٍّ منهما، ولا يصحُّ في هذا الفرض الرجوع إلى مرجِّحات باب التعارض لأنَّ مرجِّحات باب التعارض تختصُّ بأخبار الآحاد -كما هو واضح- ولا تشمل الأخبار المتواترة، والمفترض في هذه الفرضية أنَّ الخبرين متواتران.
وببيان آخر: إنَّه مع افتراض ورود روايتين متواترتين وافتراض اختلافهما في كيفيَّة القراءة وافتراض تأثير هذا الاختلاف على المعنى فإنَّه وإنْ كان يثبت بهما صحَّة القراءة بالقراءتين وأنَّ كلًا من القراءتين نازلٌ إلا أنَّهما تسقطان معًا عن الحجيَّة من جهة ما يقتضيه الظهور لكلٍّ منهما، وذلك لافتراض اقتضاء ظهور الأولى لإثبات حكمٍ منافٍ للحكم الذي يقتضيه ظهور الثانية، فالظهوران متكاذبان فأحدُهما غيرُ المعيَّن ليس مرادًا للآية قطعًا، وحيث لا علم لنا بالظهور المنافي للواقع لذلك يتعيَّن البناء على سقوط كلا الظهورين عن الحجيَّة، ولا يصحُّ في هذا الفرض الرجوع لمرجِّحات باب التعارض لاختصاصها بالأخبار الظنيَّة دون المتواترة.
افتراض تواتر إحدى الروايتين وظنيَّة الأخرى:
الفرضيَّة الثانية: أنْ تردَ روايتان إحداهما متواترة أو قطعيَّة الصدور والأخرى ظنيِّة مع افتراض اشتمالهما على قراءتين مختلفتين وافتراض تأثير هذا الاختلاف في تحديد ما هو الحكم الشرعي كما لو كان مؤدَّى إحدى القراءتين هو صحَّة هذا العمل وكان مؤدَّى القراءة الأُخرى هو فساد هذا العمل.
وفي هذا الفرض يكون المتعيَّن هو العمل بمقتضى القراءة المتواترة وتكون القراءة الأخرى ساقطة عن الحجِّية، إذ لا دليل على حجيَّة الخبر الظنَّي في فرض منافاته للخبر المتواتر، فأدلَّة حجيَّة الخبر الواحد لا تشمل الموارد التي يكون فيها الخبر الواحد معارَضًا بالخبر المتواتر أو المقطوع الصدور، فلو أخبرك الثقةُ أنَّ زيدًا قد مات وكان زيدٌ عندك وفي محضرك حيًّا يُرزق، فإنَّه في مثل هذا الفرض لا يكون لخبر الواحد قيمةٌ وإنْ كان ثقة.
مطابقة الروايات لمقتضى ظهور إحدى القراءتين:
وأما السؤال الثاني وهو ما لو وردت قراءتان مختلفتان وكان الحكم الشرعي المستفاد من الروايات المعتبرة مطابقًا لمقتضى ظهور إحدى هاتين القراءتين فهل يكون ذلك مصحِّحًا لترجيح هذه القراءة المطابقة للحكم الشرعي الثابت بالروايات؟
فجوابُه: أنَّ ذلك لا يُصحِّح الترجيح من جهة صحَّة القراءة بناءً على إمضاء أهل البيت (ع) للقراءة بجميع القراءات المتعارفة، فيصحُّ في مثل هذا الفرض القراءة بكلا القراءتين دون أنْ يكون لمطابقة إحداهما للحكم الشرعي تأثيرٌ في الترجيح من هذه الجهة.
وأمَّا ترجيح ظهور القراءة المطابقة للحكم الشرعي الثابت بالروايات فلا أثر له إذ أنَّ المستند واقعًا للحكم الشرعي هو الروايات المعتبرة وليست القراءة، نعم تصلح هذه الروايات لإثبات أنَّ القراءة المطابقة لها هي القراءة النازلة ولكن ليس بنحو القطع لافتراض عدم القطع بصدور الروايات إذ غايته أنَّها روايات معتبرة وليست قطعية الصدور كما أنَّ دلالتها ليست قطعيَّة بحسب الفرض بل هي ظنِّية نظرًا لكونها مستفادة من الظهور أي أنَّ هذه الروايات ليست نصًّا في إفادة الحكم الشرعي وإنَّما هي ظاهرة في إفادة الحكم الشرعي بحسب الفرض.
وأمَّا السؤال الثالث فقد اتَّضح جوابُه ممَّا تقدَّم وأنَّ المرجع عند تعارض القراءتين هو الأصول اللفظيَّة ومع افتراض عدمها يكون المرجع هو الأصول العمليَّة والتي تختلف باختلاف الموارد.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
10 / رجب المرجّب / 1442هـ
23 / فبراير / 2021م
[1]- سورة البقرة / 222.