معنى ﴿جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد
المسألة:
ما معنى كلمة حنيذ الواردة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾([1]) وهل هي بمعنى سمين الواردة في قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾([2]) وإذا لم تكن بمعناها فما هو وجه وصف العجل تارة بالحنيذ وأخرى بالسمين والحال أنَّ الآيتين تتحدثان عن واقعة واحدة؟
الجواب:
معنى الحنيذ:
الحنيذ اسم مفعول فهو مثل قتيل بمعنى مقتول وطريد بمعنى مطرود وطبيخ بمعنى مطبوخ، فحنيذ بمعنى محنوذ وهو اللحم المشويُّ النضيج الذي يقطر ماؤه ودسمه، وقيل إنَّه لا يُقال للمشويِّ من اللحم حنيذ إلا إذا تمَّ إنضاجه على حجارةٍ محمَّاة في أُخدودٍ من الأرض، وقيل لا يُوصف اللَّحم المشوي بالحنيذ إلا إذا تمَّ إنضاجه في حفرةٍ من الأرض قد غُمَّ عليها بالتراب والحجارة كما يَفعلُ ذلك أهل البادية.
وروى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام -عن قوله تعالى-: ﴿جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ قال: مشويًّا نضيجًا"([3]).
ومعنى ذلك أنَّ العجل أو اللحم يكون حنيذًا حين يتمُّ تحضيره من طريق الشواء على النار، ولا يصحُّ وصفه بالحنيذ ما لم يُصبح نضيجًا، فهو حنيذ حين يكون واجدًا للخصوصيتين.
وأمَّا السمين فهو صفة مشبِّهة يُوصفُ بها مثل العجل المكتنِز الكثير اللحم والشحم وذلك في مقابل العِجْل المهزول.
وعليه فيكون مفادُ الجمع بين الآيتين هو أنَّ العجْل الذي قدَّمه إبراهيم (ع) لضيوفه كان سمينًا ولم يكن مهزولًا، وكان مشويًّا قد تمَّ إنضاجه بعناية فلم يكن غريضًا نيًّا ولم يكن طبيخًا، فتكون الآيتان قد بيَّن كلٌّ منهما خصوصيَّة لم تُبيِّنها الآيةُ الأخرى، فليس بين الخصوصيتين تنافٍ -كما هو واضح- بل بينهما تمام الملائمة. وتُعبِّران معًا -بأوجز البيان- عن سخاء إبراهيم (ع) وحرصه على إكرام ضيوفه.
منشأ اختلاف وصف العجل في الآيتين:
وأمَّا لماذا اختلفتْ الآيتان في وصف العجْل، فوصفته إحداهما بالسمين، ووصفته الأخرى بالحنيذ أي لماذا لم تجمع كلٌّ من الآيتين كلا الوصفين؟
فالجواب هو أنَّ ذكر المجيء للضيوف بخصوص العجْل لم يكن هو الغرض الأساسي من سَوْق الآية في كلا الموضعين بل كان الغرض من ذكره ثانويًا، ولهذا يكون التصدِّي لتعداد أوصاف العجل مستهجَنًا وخروجًا عمَّا سيق الكلام لأجله، فلعلَّه لذلك اكتفت كلُّ آية بوصفٍ لتحصيل الغرض الثانوي وعدم شغل ذهن المتلقِّي -في ذات الوقت- عن الغرض الذي سِيقت الآية لبيانه.
ثم أنّ هنا أمرًا آخر وهو أنَّ المتلقِّي للخطاب إذا علم من طريقة المتكلِّم أنَّه حين يُكرِّر الإخبار عن واقعةٍ واحدة فإنَّه يذكر في كلِّ مرَّة خصوصيات للخبر لا يذكره في المرَّة التي سبقتها، فإنَّه -أي المتلقي- يستجمع حواسه في كلِّ مرَّة ولا يدفعه التكرار للتغافل خشية أن يفوته الوقوف على الخصوصيات التي لم يتم الذكر لها في المرَّة التي سبقتها، فتعمُّد الذكر لبعض الخصوصيات وتأجيل الذكر لخصوصياتٍ أخرى لموضع آخر يعدُّ من فنون الكلام الذي يمنع من ملالة المتلقي ويبعث فيه النشاط والحرص على التنبُّه واستحضار الحواس.
ولذلك تجد القرآن وإنْ كان يُكرِّر الواقعة في أكثر من موضعٍ إلا أنَّه يُضفي عليها في كلِّ مرَّة خصوصيَّاتٍ تختلفُ عن الخصوصيَّات التي نبَّه عليها في الموضع الآخر.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
3 / شعبان المعظّم / 1442هـ
17 / مارس / 2021م
[1]- سورة هود / 69.
[2]- سورة الذاريات / 26.
[3]- تفسير العياشي- ج2 / ص154.