لماذا في القرآن متشابه؟

 

ولعل معترضا يقول: هلا كانت جميع آي القرآن محكمات، وكان دلك أسلم من الالتباس وأقرب إلى طرق الاهتداء العام! قال الأمام الرازي: من الملا حده من طعن في القرآن، لأجل اشتماله على المتشابهات، إذ كيف يكون القرآن مرجع أناس في جميع العصور، مع وفرة دواعي الاختلاف فيه، حيث يجد صاحب كل مذهب مأربه في القرآن، بسبب اختلاف آياته في الدلالة و الرد الأمر الذي لا يليق بالحكيم تعالى أن يجعل كتابه المبين معرضا للجدل وتضارب الآراء، فلو كان جعله نقيا من المتشابهات المثيرة للشبهات، كان أقرب إلى حصول الغرض والمقصود من الهداية العامة.

 

وقد عالج ابن رشد الأندلسي الفيلسوف العظيم هده الناهية معالجة دقيقة، صنف فيها الناس إلى ثلاثة أصناف: صنف العلماء، وعنى بهم من في طبقته من أرباب الحكمة العالمية، وصنف الجمهور، وهم عامة الناس ممن لم يحظوا بحلى العلم شيئا، وصنف بين، لا هم في مستوى العلماء و لا مع العامة، و عنى بهم أرباب المذاهب الكلامية من الأشعار و أصحاب الاعتزال.

 

قال: وهدا الصنف الأخير، هم الدين يوجد في حقهم التشابه في الشرع، وهم الدين دمهم الله تعالى. وأما عند العلماء فليس في الشرع تشابه، لأنهم تعرفون من كل آية وجه تخريجها الصحيح الذي قصده الشرع، و الجمهور لا يشعرون بالشوك العارضة، بعد أن كانوا أخذوا بالظواهر واستراحوا إليها من غير ترديد.

 

قال: إن التعليم الشرعي هو كالغداء النافع لأكثر الأبدان، نافع للأكثر وربما ضر بالأقل، ولهدا جاءت الإشارة بقوله تعالى: |وما يضل به إلا الفاسقين |وهدا إنما يعرض في الأقل من الآيات لأقل الناس، وهي الآيات التي تضمنت الأعلام عن الأشياء المتغيبة عن الحس، ليس لها مثال في المحسوس، فجاء التعبير عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إلى تلك الغائبات، وأكثر شبها بها. فربما عرض لبعض الناس أن يأخذ بالمثال ذاته لتلزمه الحيرة والشك.

 

وهذا هو الذي يسما في الشرع متشابها. الأمر الذي لا يعرض للعلماء ولا للجمهور، لأن هؤلاء هم الأصحاب الدين يلائمهم الغداء النافع الذي يوافق أبدان الأصحاء.

 

أما غير هذين الصنفين فمرضى، و المرضى هم الأقل في الناس و لذلك قال تعالى:|فأما الدين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء تأويله و هؤلاء هم أهل الجدل و المذاهب الكلامية.

 

قال: وقد سلك الشرع في تعاليمه وبرامجه الناجحة مسلكا، ينتفع به الجمهور و يخضع له العلماء، ومن ثم جاء بتعابير يفهمها كل من الصنفين:الجمهور يأخذون بظاهر المثال، فيتصورون عن الممثل له يشكل المثل به، ويقتنعون بذلك. والعلماء يعرفون الحقيقة التي جاءت في طي المثال.

 

الأمثلة:

مثلاً: لما كان أرفع الموجودات في الحس هو النور ضرب به المثال، وبهذا النحو من التصور أمكن للجمهور أن يفهموا من الموجودات فيما وراء الحس، مما مثل لهم بأمور متخيلة محسوسة. فمتى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهرها لم تعرض للجمهور شك في ذلك. فإذا قيل: الله نور. وأن له حجاباً من نور، وأن المؤمنين يرونه في الآخرة كالشمس في رائعة النهار، لم تعرض للجمهور شبهة في حقيقة هذه التعابير. وكذلك العلماء لا تعرض لهم شبهة في ذلك، حيث قد تبرهن عندهم أن تلك الحالة هي مزيد علم ويقين. لكن إذا ما صرح بذلك للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها وربما كفروا بما صرح لهم. لأن الجمهوريون من كل موجود هو المتخيل المحسوس، وأن ما ليس بمتخيل ولا محسوس فهو عدم عندهم.

 

فإذا قيل: إن هناك موجوداً ليس بجسم، ولا فيه شئ مما يرونه لازم الجسمية، ارتفع عنهم التخيل، وصار عندهم من قبيل المعدوم. ولاسيما إذا قيل لهم: إنه لا خارج العالم ولا داخله، ولا فوق ولا أسفل. ومن ثم لم يصرح الشرع بأنه ليس بجسم، وإنما اكتفى بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾. وقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

 

قال: وأنت إذا تأملت الشرع وجدته- مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكنهم تصورها إلا بذلك ? قد نبه العلماء على تلك المعاني بحقائقها. فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نهج التعليم الذي خص به صنفاً صنفا من الناس، وأن لا يخلط التعليمان فتفسد الحكمة الشرعية النبوية. ولذلك قال: صلى الله عليه وآله وسلم(إنا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم).

 

وقد انتهج الإمام الرازي نفس المنهج، قال: والسبب الأقوى في هذا الباب: أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام جميعاً. وطبائع العوام تنبو- في أكثر الأمر- عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام- في أول الأمر- إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع التعطيل. فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول- وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر- يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني- وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر- هي المحكمات.

 

وهذا المنهج الذي انتهجته الفيلسوفان، في توجيه وجود المتشابه في القرآن، معالجة للقضية في بعض جوانبها، وهي الآيات المتشابهة المرتبطة مع مسألة المبدأ والمعاد، وليس علاجاً حاسماً للمادة من جذورها، إذ تبقى آيات الخلق والتقدير، والقضاء والقدر، والجبر والاختيار، والعدل والعصمة، وما شاكل، خارجة عن إطار هذا العلاج.

 

أما العلاج الحاسم لمادة الإشكال في كل جوانب المسألة، فهو: أن وقوع التشابه في مثل القرآن- الكتاب السماوي الخالد- شئ كان لا محيص عنه، مادام كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم، في حين سمو فحواه عن مستواهم الهابط.

 

القرآن جاء بمفاهيم حديثة كانت غريبة عن طبيعة المجتمع البشري آنذاك، ولاسيما جزيرة العرب القاحلة عن أنحاء الثقافات، في حين التزامه- في تعبيراته الكلامية- نفس الأساليب التي كانت دارجة ذلك العهد. الأمر الذي ضاق بتلك الألفاظ، وهي موضوعة لمعان مبتذلة وهابطة إلى مستوى سحيق، من أن تحيط بمفاهيم هي في درجة راقية وبعيدة الآفاق. كانت الألفاظ والكلمات- التي كانت العرب تستعملها في محاورتها وتعابيرها- محدودة في نطاق ضيق حسبما كانت العرب تألفه من معان محسوسة أو قريبة من الحس ومبتذله إلى حد ما. فجاء استعمالها من قبل القرآن- الكتاب الذي جاء للبشرية على مختلف مستوياتهم مع الأبدية- غريباً عن المألوف العام.

 

ومن ثم قصرت أفاهمهم عن إدراك حقائقها ما عدا ظواهر اللفظ والتعبير. إذ كانت الألفاظ تقصر بالذات عن أداء مفاهيم لم تكن تطابقها، ومن ثم كان اللجوء إلى صنوف المجاز وأنواع الاستعارات، أو الإيفاء بالكناية ودقائق الإشارات. الأمر الذي قرب المفاهيم القرآنية إلى مستوى إفهام العامة من جهة، وبعدها من جهة أخرى، قربها من جهة إخضاعها لقوالب لفظية كانت مألوفة لدى العرب. وبعدها حيث سمو المعنى، كان يأبى الخضوع لقوالب لم تكن موضوعة لمثله، كما كان يأبى النزول مع المستوى الهابط مهما بولغ في إخضاعه. إذ اللفظ يقصر عن أداء مفهوم لا يكون قالباً له ولا يتطابقه تماماً. هذا هو السبب الأقوى لوقوع التشابه في تعبيرات القرآن بالذات، كما مر من مسألة الأمر بين الأمرين، وغيرها من مسائل كلامية غامضة تبحث عن شؤون المبدأ تعالى والمعاد، ومسائل شؤون الخليقة وما انطوت عليه من أسرار وغوامض خافية على غالبية الناس.

 

مثلاً قوله تعالى﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ تعبير رمزي عن شأن الإنسان- بصورة عام- في الأرض، إنه ذلك الموجود العجيب، الذي يملك في ذاته قدرة جبارة يضيق عنها الفضاء، وتخضع لها قوى الأرض والسماء ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ كل ذلك بفضل نبوغه واستعداده الخارق الذي يمنحه القدرة على الخلق والإبداع، على أثر تفكيره وجهاده في الوصول إلى درجة الكمال، وليتمثل مظهريته تعالى، فهو الموجود النموذجي لمظهرية ذي الجلال والإكرام، ومن ثم كان خليفته في الأرض يوم ذاك ليصبح خليفته في عالم الوجود إطلاقاً.

 

لم تكن العرب تستطيع إدراك هكذا تصور عن الإنسان، ولا كان يخطر ببالها إن لهذا الإنسان شأناً في عالم الوجود، سوى أنه الموجود الضعيف الذي تتألب عليه الضواري، ولا يقتات إلا على لحوم بني جلدته سلباً ونهباً وإراقة للدماء والفساد في الأرض.

 

ومن ثم لما جاء التعبير عن شأن آدم بهكذا تعبير، ينم عن عظمة وإكبار، حسبوه (المتصرف في الأرض) عن جانب الله القابع في زاوية السماء!أو فسروه- كما في عصر متأخر ?بأنه الخلف عن مخلوق كان قبل آدم، الجن أو النسناس. وهكذا الانجذاب بالآية يمنة ويسرة، مادام لم يعرفوا من حقيقة الإنسان، ولا أدركوا من شأنه الخطير.

 

وهكذا جاء التعبير المجازي في آيتين لا تختلفان من حيث الأداء والتعبير، غير أن أحداهما لما كانت تعبر عن معنى هو فوق مستوى العامة، حصل فيها التشابه، أما الأخرى فكانت تعبيراً عن معنى محسوس، ومن ثم لم يقع فيها إشكال. فقوله تعالى ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ فيها مجاز الحذف، أي إلى رحمة ربها. كما في آية أخرى نظريتها: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي أهل القرية. غير أن الأولى صارت متشابهة، لقصور إفهام العامة عن إدراك مقام الإلوهية، فحسبوا منها جواز رؤيته تعالى. أما الآية الثاني ة فلم تتوقف في فهم حقيقتها، لأنها في معنى محسوس.

 

ونظير ذلك قوله تعالى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) دعا جهل العامة بصفات الله تعالى إلى فهم ساق له سبحانه، في حين استعارة الساق للشدة عند العرب كان أمراً دارجاً، قال شاعرهم: (وقامت الحرب على ساق) أي أخذت في شدتها، فهم عندما يستمعون إلى هذا الشعر لا يترددون في فهم الحقيقة، إذ يعلمون أن لا رجل للحرب ولا ساق. أما في الآية الكريمة فيذهب وهمهم إلى وجود رجل له تعالى وساق، ومن ثم ذهب بعضهم إلى عقيدة التجسيم، تعالى الله عن ذلك.

 

وقد ذهب سيدنا الطباطبائي- دام ظله- أيضاً إلى هذا الرأي، وذكر: أن سبب وقوع التشابه في القرآن يعود إلى خضوع القرآن- في إلقاء معارفه العالية- لألفاظ وأساليب دارجة، هي لم تكن موضوعة لسوى معاني محسوسة أو قريبة منها، ومن ثم لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفي وجه المطلوب، نعم إلا على أولئك الذين نفذت بصيرتهم وكانوا على مستوى رفيع. قال تعالى ﴿مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا - إلى قوله تعالى- كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾. وهكذا القرآن تحتمله الإفهام على قدر استعداداتها، وفيه من المتشابهات ما تزول بتعميق النظر وإجادة التفكير، فيبقى القرآن كله محكماً مع الأبد بسلام.

 

وهكذا قال الشيخ محمد عبده: (إن الأنبياء بعثوا إلى جميع أصناف الناس من دان وشريف، وعالم وجاهل، وذكي وبليد. وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة يفهمها كل أحد، ففيها من المعاني العالية، والحكم الدقيقة ما يفهمه الخاصة، ولو بطريق الكناية والتعريض، ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله والوقوف عند حد المحكم، فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده.

 

وهناك عامل آخر كان ذا أثر بين إيجاد التشابه فيها على أثر ظهور مذاهب جدلية، بعد انقضاء القرن الأول الذي مضى بسلام، إذ كانت العرب أول عهدها بنزول القرآن تستذوقه بمذاويقها البدائية الساذجة، حلوا بديعاً سهلاً بليغاً. أما وبعدما احتبكت وشائج الجدل بين أرباب المذاهب الكلامية، منذ مطلع القرن الثاني، فقد راج التشبث بظواهر آيات تحريفاً بمواضع الكلم، ومن ثم غمها نوع من الإبهام والغموض الاصطناعيين وأخذت كل طائفة تتشبث بما يروقها من آيات، لغرض تأويلها إلى ما تدعم به طريقتها في اختيار المذهب!.

 

ولا ريب أن القرآن حمال ذو وجوه- كما قال أمير المؤمنين عليه السلام- لأنه كما ذكرنا يعتمد في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه. فأكسبه ذلك خاصية قبول الانعطاف في غالبية آياته الكريمة، ومن ثم نهى الإمام عليه السلام عن الاحتجاج بالقرآن تجاه أهل البدع والأهواء، لأنهم يعمدون إلى تأويله بلا هوادة. قال عليه السلام لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج (لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا).

 

انظر إلى هذه الآية الكريمة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ربما لم تكن العرب تخطر ببالها إرادة الرؤية بالعين، كما قال الزمخشري: سمعت مستجدية بمكة بعدما أغلق الناس أبوابهم من حر الظهيرة، تقول: عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم. ولم يختلج ببال أحد أنها تقصد النظر بالتحديق إلى الله سبحانه، وإنما كان قصدها الانقطاع إليه وتوقع فضله ورحمته تعالى. وهكذا في الآية الكريمة نظراً إلى موقعية الحصر فيها. لكن الأشاعرة وأذنابهم من مشبهة وجسمه جمدوا على ظاهر الآية البدائي وأصروا على أنه النظر إليه تعالى بهاتين العينين اللتين في الوجه.

 

وهكذا لما سمعت العرب قوله تعالى ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ ربما لم تفهم منه سوى استقلاله تعالى بملكوت السماوات والأرض وتدبيره لشؤون هذا العالم، نظير قول شاعرهم:

 

ثم استوى بشر على العراق    من غير سيف ودم مهراق

 

وقال آخر:

فلما علونا واستوينا عليهم     تركناهم صرعى لنسرو كاسر

 

لكن الأشاعرة ومن ورائهم سائر أهل التشبيه، أبوا إلا تفسيره بالاستقرار على العرش جلوساً متربعاً فوق السماوات العلى، وقد ينزل إلى السماء الدنيا ليطلع على شؤون خلقه فيغفر لهم ويجيب دعائهم، إذ لا يمكنه ذلك وهو متربع على كرسيه فوق السماوات.

 

وعلى هذا السبيل، لما نزلت الآية: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ لا نظن أن العرب فهمت منها الجوارح والأعضاء، نظير قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ لا يعني الجارحة المخصوصة كما زعمته المشبهة من أصحاب الحشو، وإنما عنى يد القدرة ونفي العجز عن التصرف فيما يشاء الله تعالى. أما الأشعري ومن حذا حذوه فإنهم قد انحرفوا في فهم هذا المعنى الظاهر، فأولوه إلى الجارحة، وقالوا إن لله يداً ورجلاً وعيناً ووجهاً وما إلى ذلك، وقوفاً مع ظاهر الكلمة في القرآن.

 

والشواهد على هذا التحريف بظواهر القرآن كثيرة، سنعرض نماذج منها في فصل قادم. ونذكر مدى تأثير تلكم المذاهب المبتدعة في تشويه ظاهر القرآن الكريم، من جراء تطاول أياديهم الأثيمة نحو هذا الكتاب الإلهي المقدس، لغرض تلويثه! ولكن معاذ الله ﴿وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾

وسيأتي هذا الجانب من البحث بتوضيح أكثر إن شاء الله.

 

 

المصدر:

كتاب التمهيد في علوم القرآن، سماحة الشيخ محمد هادي معرفة