المحكم والمتشابه في القرآن

المحكم والمتشابه بمعناهما اللغوي:

أولا: المحكم:

قال في القاموس (احكمه أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد كحكمه حكماً وعن الأمر رجعه فحكم منعه مما يريد كحكمه)(1). وقال في لسان العرب (أحكمت الشيء فاستحكم صار محكماً واحتكم الأمر واستحكم وثق. ونقل عن الأزهري - إن حكمت تأتي بمعنى أحكمت)(2) وبملاحظة هذين النصين اللغويين نحصل على النتائج الثلاث التالية في شأن هذه المادة.

1 - إن (محكم) مشتق من احكم وحكم.

2 - إن (حكم) تأتي بمعنى وثق واتقن. فهي ذات معنى وجودي ايجابي.

3 - إن (حكم) تأتي بمعنى منع فهي ذات معنى عدمي سلبي.

وقد حاول بعض الباحثين في علوم القرآن إن يرجع مادة الأحكام بمشتقاتها المتعددة كالحكم والحكمة وحكم وأحكم وغيرها إلى معنى واحد يجمعها وهو المنع(3) ولكن المتبادر من مادة الإحكام معنى وجودي ايجابي هو الاتقان والوثوق كما يشير إلى ذلك تصريح أهل اللغة في تفسير أصل المادة. والمنع يمكن ان يكون من مستلزمات هذا المعنى الايجابي الأمر الذي صحح استعمال المادة فيه أيضاً.

ثانيا: المتشابه: هو التشابه والتماثل.

قال في القاموس - الشِّبَه بالكسر والتحريك.. المثل جمعه: اشباه وشابَهَه وأشبهه مائلهُ وتشابها واشتبها: أشبه كل منها الآخر حتى التبسا وأمور مشتبهة ومشبَّهة كمعظّمة،مشكّلة. والشبهة بالضم - الالتباس والمثل. وشبه عليه الأمر تشبيهاً لبّس عليه وفي القرآن المحكم والمتشابه(4).

وقال في لسان العرب الشِّبهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ المِثلُ والجَمعُ أشباه. وأشبه الشيءُ الشيءَ: ماثله وأَشبَهتُ فلاناً وشابَهتُهُ واشتَبَهَ علَيَّ وتشابهَ الشيئان واشتبَها: أَشبَهَ كلُّ واحدٍ منها صاحِبَه والمُشتبهاتُ من الأمور: المشكلاتُ،والمتشابهاتُ: المتماثلاتُ والتشبيه: التمثيل. والشُّبهَة: الالتباس وأمور مُشتَبهة ومُشَبِّهة ومُشَبِّهة: مشكلة يُشبِهُ بعضُها بعضاً. وشَبَّهَ عليه: خَلَّطَ عليه الأمر حتّى اِشتبَهَ بِغَيرِهِ(5).

وبملاحظة هذين النصين نجد:

1- إن شابهه واشبهه بمعنى مائلهُ. وكذا تشابه واشتبه ولكنهما يدلان على وجود الوصف في الطرفين فهو من قبيل المفاعلة.

2- ان الشبه يأتي بمعنى المثل فهو معنى وجودي ذو طابع موضوعي ولكنه قد يطلق في نفس الوقت على ما يستلزمه أحيانا من (الالتباس) الذي هو من المعاني ذات الطابع الذاتي القائم في عالم النفس. بل قد تطلق المادة ويراد منها خصوص المماثلة المؤدية: إلى الالتباس كما قد يرمي إلى ذلك صاحب القاموس في قوله الآنف (وتشابها واشتبها أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا). وهذا النوع من الاستعمال نجده في كل مادة تطلق على معنى يقبل الشدة والضعف حيث قد يكون احد مصاديق المعنى مستلزماً لوجود شيء آخر.

القرآن محكم ومتشابه:

لقد جاء في التنزيل وصف جميع القرآن الكريم بأنه كتاب محكم ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ هود:1. وقال بعضهم في قوله تعالى ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ يونس: 1،إن حكيم هنا بمعنى محكم(6) كما جاء في التنزيل أيضاً وصف جميع القرآن بأنه كتاب متشابه ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ﴾ الزمر/23.

وفي مقابل هذا الاستعمال الشامل لهذين الوصفين نجد التنزيل يطلقهما بشكل يجعل الأحكام مختصاً ببعض الآيات القرآنية. ويجعل التشابه مختصاً ببعض آخر منها كما جاء ذلك في قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ آل عمران: 7.

ويكاد الباحثون في علوم القرآن يتفقون في تعيين معنى كل من الوصفين في استعمالهما الشامل حيث يجدون إن العلاقة التي صححت إطلاق وصف الإحكام على الآيات القرآنية كلها هي: ما في القرآن من أحكام النظم واتقانه وما فيه من التماسك والانسجام في الأفكار والمفاهيم والأنظمة والقوانين. كما يجدون إن العلاقة التي صححت اطلاق وصف المتشابه عليه هي محض التماثل والتشابه بين بعضه والبعض الآخر في الأسلوب والهدف وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ النساء: 82.

ولكنهم اختلفوا منذ البداية حين حاولوا أن يحددوا المعنى المراد من هذين الوصفين (المحكم والمتشابه) في الآية السابعة من آل عمران الأمر الذي أدى إلى ولادة علم من علوم القرآن سمي بالمحكم والمتشابه. ومن الواضح إن البحث حين يدور حول فهم المعنى القرآني المراد من كلمتي المحكم والمتشابه في هذه الآية الكريمة لا يكون بحثاً اصطلاحياً ولا شبيهاً بالمعنى الاصطلاحي كما هو الحال في البحث عن المراد بالمكي والمدني لأنه يحاول أن يحقق غاية موضوعية وهي معرفة ما أراده اللّه سبحانه من هاتين الكلمتين(7). وقد تعددت الاتجاهات والآراء في معنى المحكم والمتشابه المراد من هذه الآية نظراً لاستمرار البحث فيها منذ العصور الأولى للتفسير ولأهميتها من ناحية مذهبية حتى أن بعض الباحثين ذكر ستة عشر رأياً في حقيقة المحكم والمتشابه. وسوف نكتفي في بحثنا هذا بدراسة الاتجاهات الرئيسية الهامة منها.

مختارنا في المحكم والمتشابه:

وتفرض علينا طبيعة البحث أن نذكر الرأي الصواب في تحديد معنى هاتين الكلمتين ليتضح على ضوئه مدى صحة بقية الاتجاهات وانسجامها مع المدلول اللغوي والمحتوى الفكري للآية الكريمة. وبهذا الصدد يجدر بنا أن نستذكر تقسيماً تعرضنا له في بحوثنا السابقة وهو أن التفسير تارة يكون للّفظ وذلك بتحديد مفهومه اللغوي العام الذي وضع له اللفظ وأخرى يكون للمعنى وذلك بتجسيد ذلك المعنى في صورة معينة ومصداق خاص.

وعلى أساس هذا التقسيم نتصور التشابه المقصود في الآية الكريمة ضمن نطاق التشابه في تجسيد صورة المعنى وتحديد مصداقه الواقعي الموضوعي لا في نطاق التشابه في العلاقة بين اللفظ ومفهومه اللغوي (المعنى) سواء في هذا النفي التشابه الذي يكون بسبب الشك في أصل وجود العلاقة بين اللفظ والمفهوم اللغوي (المعنى) كما إذا تردد اللفظ في استعماله بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

وهذا التفسير للتشابه لانتبناه على أساس عدم صلاحية كلمة التشابه بحدودها اللغوية لاستيعاب هذا اللون من التشابه اللغوي. وإنما نقرر ذلك على أساس وجود قرينة خاصة في الآية الكريمة تأبى الانفتاح على هذا اللون من التشابه وهذه القرينة هي ما نستفيده من قوله تعالى ﴿فيتبعون ما تشابه منه﴾ فان هذا الإتباع لا يكون إلا في حالة ما إذا كان للفظ مفهوم لغوي يكون العمل به إتباعا له. إذ ليس من إتباع الكلام - أي كلام - أن نأخذ بأحد معانيه المشتركة وإنما يكون هذا العمل من إتباع الهوى والرأي الشخصي.

وحين نلاحظ استعمال كلمة الاتباع في مجال آخر نجد هذا الاستنتاج أمراً واضحاً فنحن نعرف وجود نصوص كثيرة تأمرنا بضرورة اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية والتمسك بهما. فهل نتوهم فيمن يأخذ بأحد المعاني المشتركة للفظ خاص ورد في الكتاب الكريم او في السنة النبوية انه متبع للكتاب والسنة. أو لابد لانطباق هذا المفهوم في حقه من الأخذ بالنصوص التي لها ظهور في معان معينة. ولا شك بتعيين الشق الثاني إذن فالتشابه المقصود في الآية الكريمة نوع خاص لابد فيه أن يكون قابلاً للاتباع وهذه القابلية تنشأ من عامل وجود مفهوم لغوي معين للفظ يكون العمل به إتباعا له.

فالتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه اللغوي لأننا فرضنا أن يكون للفظ مفهوم لغوي معين وإنما ينشأ من ناحية أخرى وهو الاختلاط والتردد في تجسيد الصورة الواقعية لهذا المفهوم اللغوي المعين وتحديد مصداقه في الذهن من ناحية خارجية.

فحين نأتي إلى قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ طه/5 نجد للفظ الاستواء مفهوماً لغوياً معيناً اختص به وهو الاستقامة والاعتدال مثلاً. وليس هناك أي تشابه بينه وبين معنى آخر في علاقته باللفظ فهو كلام قرآني قابل للاتباع ولكنه متشابه لما يوجد فيه من الاختلاط والتردد في تحديد صورة هذا الاستواء من ناحية واقعية وتجسيد مصداقه الخارجي بالشكل الذي يتناسب مع الرحمن الخالق الذي ليس كمثله شيء.

وحين نفهم المتشابه بهذا اللون الخاص لابد لنا إن نفهم المحكم على أساس هذا اللون الخاص أيضاً. وهذا شيء تفرضه طبيعة جعل المحكم في الآية مقابلاً للمتشابه فليس المحكم ما يكون في دلالته اللغوية متعين المعنى والمفهوم فحسب بل لابد فيه من التعيين في تجسيد صورته الواقعية وتحديد مصداقه الخارجي ففي قوله تعالى (ليس كمثله شيء) نجد الصورة الواقعية لهذا المفهوم متعينة فهو ليس كالإنسان ولا كالسماء ولا كالأرض ولا كالجبال.

فالمحكم من الآيات ما يدل على مفهوم معين لا نجد صعوبة أو تردداً في تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معين. والمتشابه ما يدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي.

المصدر:

كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم


1- القاموس - مادة (حكم).

2- لسان العرب - مادة (حكم).

3- راجع بهذا الصدد الفخر الرازي. التفسير الكبير 7/179 والزرقاني مناهل العرفان 2/166 ورشيد رضا. تفسير المنار 3/163.

4- القاموس: مادة (شبه).

5- لسان العرب - مادة شبه.

6- لسان العرب: مادة حكم 13/53 ط دار صادر بيروت.

7- قارن بهذا ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان 2/166.