استثناءات من سور مدنية

تقدم: استبعاد أن تبقى آية غير مسجّلة في سورة مكيّة حتى تنزل سورة مدنيّة بعد فترة طويلة أم قصيرة، فتسجّل فيها. وهكذا استبعاد ابن حجر في شرح البخاري وغيره(1)

 

ولكن مع ذلك فقد قالوا في كثير من آيات مسجّلة في سور مدنيّة: أنّهنّ مكيّات. ونحن نذكرهنّ تبعاً حسب ترتيب السور في المصحف الشريف، ونعقّبها بما نرتأيه من رأي.

1- سورة البقرة: (مدنيّة)

استثني منها ثلاث آيات: الأُولى قوله تعالى: ﴿فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾(2) زعموها زلت بشأن المشركين أيام كان المسلمون ضعفاء.

لكن صدر الآية: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...) شاهد نزولها بشأن أهل الكتاب، أوائل هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، ولم تقو شوكة الإسلام بعد، ثم نسخت بقوله: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ - إلى قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(3) راجع الطبرسي، بشأن نزول الآية ونسختها بآية براءة(4)

الثانية: قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ..﴾(5) زعموها - أيضاً - نزلت بشأن صمود المشركين تجاه قبول الحقّ، نظيرة قوله: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾(6)

لكن الآية نزلت بشأن إنفاق المسلمين عن الكفّار، حيث امتنعوا من ذلك زعما أنّها محرّمة عليهم وهم على غير دينهم، فنزلت(7)

الثالثة: قولة تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾...(8) قيل: هي آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو بمنى في حجّة الوداع(9) وعلى الفرض فهي مدنيّه على ما سلف.

2- سورة النساء: (مدنيّة)

قيل: إلاّ قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا﴾...(10)

وقوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾...(11)

فإنّهما نزلتا بمكة...!

ذكر ذلك الطبرسي ولم يذكر حجّة ولا القائل بذلك (12)

ولعلّ الوجه في الآية الأُولى ما قيل: إنّها نزلت بعد الفتح بمكة، خطاباً مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة حين قبض من المفتاح يوم الفتح وأراد أن يدفعه إلى العباس عن ابن جريح(13)

لكن العبرة بمكيّة الآية نزولها قبل الهجرة كما سبق. على أنّ الآية لا تنطبق على القصّة المزعومة، لأن دفع المفتاح إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن برسم أمانة واستيداع! وإلاّ فحاشى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخون الأمانات حتى ينبّهه الله بنزول آية.! والطبرسي رفض هذا التنزيل...

وامّا الآية الثانية فلم نعرف السبب واحتماله، وقد ذكر الطبرسي في سبب نزولها وجوهاً لا تصلح سنداً لهذا الاستثناء(14) ولهجة الآية تنادي بمدنيّتها، لأنّها من آيات الأحكام.

غير أنّ هذا الاستثناء ينظر إلى المطلع الثاني المتقدّم. وأمّا على المصطلح الأوّل المشهور-: ما نزل بعد الهجرة فهو مدنيّ حتى ولو كان نزوله بمكة - فالآية مدنيّة(15)

3- سورة المائدة: (مدنيّة)

استثني منها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾(16)

قيل نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو واقف بعرفات في حجة الوداع(17) وهكذا زعمه أبو عبد الله الزنجاني في تاريخ قرآنه(18)

لكن أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: نزلت الآية بعد أن نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) علماً للأُمَّة يوم غدير خم، منصرفه عن حجّة الوداع، فأنزل الله يومئذ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾(19) وهكذا سجّلها ابن واضح اليعقوبي، قال: وكان نزولها يوم النّص على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(صلوات الله عليه) بغدير خم. قال: وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة(20) وقد ذكرها الحافظ الحسكاني بعدّة طرق(21)

ثم انّ نزول الآية بعرفات أو بغدير خم لا يجعلها مستثناة من المدنيّات، وفق المصطلح المشهور المتقدّم.

4- سورة الانفال: (مدنيّة)

استثني منها قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(22)

قالوا: إنّها نزلت في قصة دار الندوة اجتمعت فيها قريش للتآمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفشلت مؤامرتهم بهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبيت علي(عليه السلام) على فراشه(23)

لكن نزول الآية بشأن تلك القصة لا يستدعي نزولها حينذاك، ولا سيّما بعد ملاحظة أداة ظرف الماضي (إذ) في صدر الآية حكاية عن أمر سابق!

وفي المصحف الأميري وتاريخ الزنجاني: استثناء الآيات: 31 إلى 36. نظراً لأنّها نزلت بشأن مشركي قريش: لكنّها كالآية المذكورة حكاية لأمر سابق، ولا دليل على نزولها حينذاك. وقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(24) ايضاً حكاية عن ماض وإخبار عن حال، أي لم يعذّبهم الله فيما قبل، بسبب وجودك بين أظهرهم ولا يعذّبهم الآن - بعد خروجك - لوجود جماعة من المؤمنين لم يستطيعوا الخروج وهم على عزم الهجرة، فرفع الله العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفار هؤلاء المؤمنين الباقين بين أظهرهم(25)

هذا... ونقل جلال الدين عن قتادة أنّه قال: نزلت الاية:﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾... بمكة. ثم قال: ويردّه ما صحّ عن ابن عباس أنّ هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة(26) وقد أخرجه في اسباب النزول عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت بعد مقدمه (صلى الله عليه وآله) المدينة(27)

واستثني أيضا - قوله:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(28) وصحّح هذا الاستثناء ابن العربي وغيره(29) وذلك لما أخرجه أبو محمد من طريق طارق عن عمر بن الخطاب، قال: أسلمت رابع أربعين فنزلت ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهكذا روي عن ابن عباس(30)

لكن يعارضه ما روي عن الكلبي، قال: نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر(31) وقال الواقدي: نزلت الآية بالمدينة في بني قريظو وبني النضير(32)

هذا... وسياق الآية يشهد بمدينيّتها، نزلت في إبان تشريع القتال، سواء أمع المشركين أم مع أهل الكتاب. فالآية يسبقها قوله تعالى:﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ﴾... ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم﴾... ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾...﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾... ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾...(33)

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾...

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾...(34)

انظر إلى هذا السياق المنسجم بعضه مع بعض انسجاماً يجعلنا على ثقة من وحدة مترابطة نزلت جملة واحدة.

وأيضاً: لا معنى لكفاية أربعين رجلاً أسلموا بمكة وهم على ضعف ماداموا فيها. الأمر الذي يؤكّد من نزول الآية بالمدينة حيث جعلت تزداد شوكة المؤمنين وتقوى جانبهم مع الأيّام والساعات، فكانت فيهم الكفاية والكفاءة.

وهكذا فسّرها أبو جعفر الطبري، قال: يقول لهم جلّ ثناؤه: ناهضوا عدوّكم فإنّ الله كافيكم أمرهم ولا يهوّلنّكم كثرة عددهم وقلّة عددكم فإنّ الله مؤيّدكم بنصره. وذكر لهذا المعنى روايات، ولم يتعرضّ لشيءٍ من روايات نزولها بشأن إسلام عمر بن الخطاب(35)

5- سورة براءة: (مدنيّة)

استثني منها أربع آيات: الأُولى والثانية: قوله تعالى ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى... إلى قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾(36)

قالوا: نزلت بشأن أبي طالب عندما حضرته الوفاة، دخل عليه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده أبوجهل وعبدالله بن أبي اميَّة. فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أي عم، قل: لا إله إلاَّ الله، أحاجّ لك بها عند الله. فقال القرشيان: يا أبا طالب، أترغب عن ملّة عبدالمطلب؟! فكانا كلّما عرض عليه النبيّ (صلى الله عليه وآله) كلمة الشهادة أعادا كلامهما. فكان آخر كلام أبي طالب: أنّه على ملّة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) عند ذلك. لأستغفرنّ لك مالم انهَ عنك. فنزلت الآية... كما ونزلت ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾(37)

قالوا - ايضاً-: إنَّها نزلت بشأن والدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يستغفر لأبيه، وهكذا استجاز ربّه في زيارة قبر امّه فأجازه، فبداله أن يستغفر لها فنزلت الآية تنهاه.! فما رُئُي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر باكياً من يومه ذاك(38)

أقول: قاتل الله العصبيّة الجاهليّة: إنّها نزعةً أُمويّة ممقوتة عمدت إلى الحطّ من كرامة بني هاشم والى تشويه جانب أقرباء النبيّ (صى الله عليه وآله) لتجعل من أبيه وامّه مشركين، ويموت ابوطالب كافراً، وهو المحامي الأوّل والمدافع الوحيد في وقته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾(39) ولاشكّ أنّ أبا طالب كان أوّل من آواه ونصره ووقف دونه بنفسه ونفيسه. والآية الكريمة شهادة عامّة تشمله قطعيّاً(40)

ويكفي دليلاً على إيمانه الصادق، قوله في قصيدته التي يحمي بها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مهدّداً قريش أجمع، قال فيها:

لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب لدينا ولا يعني بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد في أرومة تقصر عنه سورة المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيّده ربّ العباد بنصره وأظهر ديناً حقذه غير باطل(41)

هذا... وأمّا نحن الإماميّة فإنّ اصول معتقداتنا تقضي بلزوم طهارة آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وامّهاتهم، لم يتلوّثوا بدنس شرك قط، فلم يزالوا ينحدرون من صلب شامخ إلى رحم طاهر. كما جاء في الزيارة السابعة للإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام): (أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها)

وفي حديث ابن عباس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذّباً...(42)

والى هذا المعنى جاء تأويل قوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾(43) أي لم تزل تنتقل من صلب مؤمن موحّد إلى صلب مؤمن موحّد. قال مجاهد: من نبيّ إلى نبيّ حتى اخرجت نبيّاً(44) قال العلاّمة الطبرسي: وقيل معناه: وتقلّبك في اصلاب الموحّدين من نبيّ إلى نبي حتى اخرجك نبيّاً عن ابن عباس في رواية عطا وعكرمة. وهو المروي عن ابي جعفر الإمام محمد بن علي الباقر، وأبي عبدالله الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليهما السلام) قالا: في أصلاب النبيينّ نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم(عليه السلام)(45)

والصحيح في سبب نزول الآية: ما ذكره أبوعلي الطبرسي: أنّ المسلمين جاؤوا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلبون إليه الاستغفار لموتاهم الذين مضوا على الكفر أو النفاق، قالوا: الا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية، فنزلت الآية(46)

وممّا يدلنّا على صحّة هذه الرواية وبطلان الرواية الأُولى: أنّ الآية الكريمة جاءت بلفظ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾... فلو صحّت تلك الرواية لما كان هناك سبب معقول لإرداف غيره (صلى الله عليه وآله) من المؤمنين معه في هذا الإنكار الصارم.

وأخيراً فإنّ هذه الآية والآية رقم: 80 والآية رقم: 84 نزلن جميعاً على نمط واحد، والسبب شيئ واحد: هو ما كان المؤمنون على رجاء أن يترحّم على آبائهم وامَّهاتهم وأقربائهم الذين ماتوا على الكفر، ملتمسين من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يساعدهم على هذه الأُمنية، فنزلت الآية لتقطع أملهم في ذلك إذا كانوا علموا من آبائهم البقاء على الشرك حتى الموت: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾(47) ولتوضيح أكثر راجع تفسير الآيتين(48)

الثالثة والرابعة: قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ . فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾(49) وهما آخر سورة براءة.

قال ابن الغرس إنّهما مكيّتان.

قال جلال الدين: وهذا غريب، كيف وقد ورد أنّهما آخر ما نزل(50)

قلت: لم يثبت نزول الآيتين بمكة، ولا ذكر قائله دليلاً أو سنداً لذلك. فثبت الآية في سورة مدنيّة - ولاسيّما هي آخر السور المدنيّة- هو بذاته دليل على نزولها بالمدينة، حيث الأصل الأولى في الآيات هو الثبت الطبيعي تباعاً حسب النزول. مضافاً إلى ما ورد في سبب نزولهما: جاءت جهينة تسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله)- أوّل قدومه المدينة - عهداً يأتمنون اليه، فنزلت الآيتان(51) كما روي أنّهما آخر الآيات القرآنية نزولاً بالمدينة(52)

 -6 سورة الرعد: (مدنيّة)

أخرج أبوالشيخ عن قتادة، قال: سورة الرعد مدنيّة إلا قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ﴾..(53)

وذكر الطبرسي استثناء قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ - إلى آخر الآية- والتي بعدها(54)

لكن الآية تشنيع بموقف المشركين المتأرجح وإرعاب لهم، كما هي تبشير بفتح للمسلمين قريب، فهي لأن تكون من تتمّة آيات سابقة نزلت في صلح الحديبيّة(55) أرجح. وعن عكرمة: أنّها نزلت بالمدينة في سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) والقارعة هي السريّة كانت تدوّخهم. والوعد هو الفتح(56)

 -7 سورة الحج: (مدنيّة)

استثني منها قوله: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾...(57)

قال جلال الدين: إلى تمام الآيات الثلاث فإنّهنّ نزلن بالمدينة(58)

قلت: وعلى ذلك فينبغي الانتهاء إلى الآية رقم: 22. بل إلى الآية رقم: 24 ستّ آيات، نظراً للانسجام الوثيق بينهنّ بما لا يمكن التفكيك.

لكن لا سند لهذا الاستثناء، ومن ثم فالقول به غريب. مضافاً إلى ما ورد متواتراً أنّها نزلت بشأن ثلاثة من المؤمنين هم: حمزة بن عبدالمطلب، وعبيدة بن الحارث، وعلي بن ابي طالب، تبارزوا ثلاثة من الكفّار، هم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة. قال علي(عليه السلام): أنا اوّل من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة(59) فالآية نزلت متأخرة عن وقعة بدر، أو نزلت ببدر(60)

واستثني - أيضاً- قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ... إلى قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾(61) الآيات الاربع.

أخرج ابن المنذر عن قتادة: أنّهنّ مكيّات(62) قالوا: نزلن بمكة بشأن قصة الغرانيق(63)

وقد زيّفنا حديث الغرانيق، وأنّه حديث مفتعل، وضعته الزنادقة للتشويه على سمعة القرآن ورسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(64)

والآية إشارة إلى البدع التي تنتاب شرائع الأنبياء على أيدي المحرّفين، لكنّه تعالى يحفظ دينه على أيدي علماء ربانيّين في كلّ عصر، ينفون بدع المبطلين كما في الحديث الشريف(65) وتلك البدع هي فتنة للذين في قلوبهم مرض.

وفي المصحف الأميري وتاريخ الزنجاني: أنّ الآيات نزلن بين مكة والمدينة! ولم يعرف لهذا القيد سبب معقول أو منقول!

8- سورة محمد (صلى الله عليه وآله): (مدنيّة)

استثني منها قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾(66)

قال السخاوي في جمال القرّاء: قيل إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لما توجّه مهاجراً إلى المدينة وقف فنظر إلى مكة وبكى، فنزلت تسلية لخاطره الشريف(67)

لكن الآية في سياقها منسجمة مع آيات قبلها وبعدها أنسجاماً وكيداً، بحيث لا يدع مجالا للقول بالتفكيك، فامّا أنّ الجميع مكيّة أو الجميع مدنية.

وبما أنّ السورة تقريع عنيف بالمشركين وإثارة عامّة بالمؤمنين، تمهيداً لتشريع القتال، فهي مدنيّة نزلت بهذا اللحن اللاذع، وجعلت تعدّد مساوئ ارتكبتها قريش، وتهدّدها بقتل ذريع وفشل فظيع إزاء معاندتهم مع الحقّ. والآية المذكورة أيضاً على نفس النمط. لم تخرج على قريناتها.

9- سورة الحجرات: (مدنيّة)

نسب إلى ابن عباس: استثناء قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى﴾...(68)

ولعلّه لمكان الخطاب مع (الناس)، على ما زعمه بعضهم أنّه من دلائل مكيّة الخطاب! وقد اسبقنا أنّه لا دليل في ذلك... بدليل وقوعه في سورة البقرة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾(69)

10- سورة الرحمان: (مدنيّة)

استثني منها قوله: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾...(70) ولم يعرف سبب هذا الاستثناء الغريب!

11- سورة المجادلة: (مدنيّة)

استثني منها قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾...(71)

ولم يعرف السبب أيضاً.

12- سورة التحريم: (مدنيّة)

قال قتادة: هي إلى رأس العشرة مدنيّة: والباقي مكيّ(72)

ويردّه: أنّ الآيتين الأخيرتين هما من تتمّة المثل الذي ضربه الله، نصحاً لزوجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد تطاولن عليه. فلو فصلناهما عن سائر آيات السورة لما بقي لهما موقع بديع.

13 - سورة الإنسان: (مدنيّة)

استثني منها قوله: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾...(73) وقيل إلى آخر السورة.

قالوا: نزلت في أبي جهل(74)

لكن الآية تفريع على آيات سبقت فلا يعقل انفكاكها عنها، على أنّ الأمر بالصبر تجاه تعسّفات المعاندين أو الجاهلين، هي خصيصة الأنبياء في جميع أدوار حياتهم التي ملؤها الكفاح والجهاد. ومن ثم قيل: الآية عامّة في كلّ عاص وفاسق وكافر(75)

وهناك سور اخرى مدنيّة قالوا فيها باستثناءات غريبة تركناها، حيث طال بنا البحث وفيما ذكرنا كفاية لإثبات أنّ لا وقع لتلكم الاستثناءات إطلاقاً، سواء من سور مكيّة أم مدنيّة وكلّها مستندة إلى حدس أو نقل ضعيف لا مبرّر للاستناد إليها البتّة.

وبذلك نطوي سجل هذا البحث، والحمد لله أوّلاً وآخراً.

المصدر:

كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة.


 1- تقدم ذلك في الصفحة 169.

 2- البقرة: 109.

 3- التوبة: 29.

 4- مجمع البيان: ج1 ص184 - 185. والدر المنثور: ج1 ص107.

 5- البقرة: 272.

 6- القصص: 2.

 7- مجمع البيان: ج2 ص385. والدر المنثور: ج1 ص33.

 8- البقرة: 281.

 9- الدر المنثور: ج1 ص370.

 10- النساء: 4.

 11- النساء: 176.

 12- مجمع البيان: ج3 ص1.

 13- مجمع البيان: ج3 ص9.

 14- مجمع البيان: ج3 ص149.

 15- تقدم ذلك في الصفحة: 129.

 16- المائدة: 3.

 17- الدر المنثور: ج2 ص23.

 18- تاريخ القرآن لابي بعد الله الزنجاني: ص27.

 19- تفسير التبيان: ج3 ص435.

 20- تاريخ اليعقوبي: ج2 ص35.

 21- شواهد التنزيل: ج1 ص12-16.

 22- الانفال: 30.

 23- مجمع البيان: ج4 ص537.

 24- الانفال: 33.

 25- مجمع البيان: ج4 ص539.

 26- الإتقان: ج1 ص15.

 27- لباب النقول بهامش الجلالين: ج1 ص170.

 28- الانفال: 64.

 29- الإتقان: ج1 ص15.

 30- الدر المنثور: ج3 ص200.

 31- مجمع البيان: ج4 ص17.

 32- تفسير التبيان: ج5 ص152.

 33- الإنفال: 2 و 3 و 5 و 6 و 7 و 8.

 34- الإنفال: 64 و 65.

 35- جامع البيان: ج10 ص26.

 36- براءة: 113 ? 114.

 37- القصص: 2. الدر المنثور: ج3 ص282. وصحيح البخاري: ج2 ص119 و ج6 ص87.

 38- جامع البيان: ج11 ص31.

 39- الانفال: 74.

 40- راجع حق اليقين للسيد عبدالله شبر: ج1 ص100.

 41- سيرة ابن هشام: ج1 ص299.

 42- الدر المنثور: ج3 ص294.

 43- الشعراء: 219.

 44- الدر المنثور: ج5 ص98.

 45- مجمع البيان: ج7 ص207.

 46- مجمع البيان: ج5 ص76.

 47- النساء: 48 و116.

 48- تفسير الطبري: ج10 ص137 و 141. ومجمع البيان: ج5 ص و 2. والدر المنثور: ج3 ص64 و 66.

 49- براءة: 128 - 129.

 50- الإتقان: ج1 ص15. والدر المنثور: ج3 ص296.

 51- الدر المنثور: ج3 ص297.

 52- نفس المصدر ومجمع البيان: ج5 ص86.

 53- الرعد: 31.

 54- الإتقان: ج1 ص15. ومجمع البيان: ج5 ص273.

 55- راجع مجمع البيان: ج6 ص292.

 56- جامع البيان: ج13 ص105.

 57- الحج: 19.

 58- الإتقان: ج1 ص9.

 59- صحيح البخاري: ج6 ص123 و 124. وصحيح مسلم: ج8 ص246.

 60- الدر المنثور: ج4 ص348 - 349. وتفسير الطبري: ج17 ص99.

 61- الحج: 52 - 1.

 62- الدر المنثور: ج4 ص342. وراجع البرهان: ج1 ص202.

 63- مجمع البيان: ج7 ص90. وتفسير الطبري: ج17 ص131. والدر المنثور: ج4 ص366.

 64- تقدّم ذلك في صفحة: 84.

 65- سفينة البحار: ج1 ص1.

 66- محمد: 13.

 67- الإتقان: ج1 ص20. والدر المنثور: ج6 ص48.

 68- الحجرات: 13. مجمع البيان: ج9 ص128.

 69- البقرة: 21.

 70- الرحمان: 29. الإتقان: ج1 ص17.

 71- المجادلة: 7. الإتقان: ج1 ص17.

 72- نفس المصدر.

 73- الإنسان: 24.

 74- الدر المنثور: ج6 ص302. ومجمع البيان: ج10 ص402 و413.

 75- مجمع البيان: ج10 ص413.