معرفة المكي والمدني
لمعرفة المكيّ من المدنيّ، سواء أكانت سورة أم آية، فائدة كبيرة تمسّ جوانب أسباب النزول، وتمدّ المفسّر والفقيه في تعيين اتجاه الآية، وفي مجال معرفة الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والقيد من الإطلاق، وما أشبه. ومن ثم حاول العلماء جهدهم في تعيين المكيّات من المدنيّات، ووقع إجماعهم على قسم كبير، واختلفوا في البقيّة. كما استثنوا آيات مدنيّة في سور مكيّة أو بالعكس، ولذلك تفصيل طريف يأتي.
والملاك في تعيين المكّي والمدنيّ مختلف حسب اختلاف الآراء والأنظار في ذلك، وفيما يلي ثلاث نظريّات جاءت مشهورة:
الأُولى: اعتبار ذلك بهجرة النبي (صلى الله عليه وآله) ووصوله الى المدينة المنّورة. فما نزل قبل الهجرة أو في اثناء الطريق قبل وصوله الى المدينة، فهو مكيّ، وما نزل بعد ذلك فهو مدنيّ.
والملاك على هذا الاعتبار ملاك زمني، فما نزل قبل وقت الهجرة، ولو في غير مكّة فهو مكّي. وما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة حتى ولو نزل في مكّة عام الفتح او في حجة الوداع، فهو مدنيّ باعتبار نزوله بعد الهجرة. وعلى هذا الاصطلاح فجيمع الآيات النازلة في الحروب وفي أسفاره (صلى الله عليه وآله) بما أنذها نزلت بعد الهجرة، كلّها مدنيّات.
قال يحيى بن سلام: ما نزل بمكّة أو في طريق المدينة قبل أن يبلغها (صلى الله عليه وآله) فهو مكّي. وما نزل بعدما قدم (صلى الله عليه وآله) المدينة أو في بعض أسفاره وحروبه فهو مدنيّ. قال جلال الدين: وهذا أثر لطيف يؤخذ منه أنّ ما نزل في سفر الهجرة مكيّ اصطلاحاً(1).
وذلك كقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قيل: نزلت بالجحفة والنبيّ (صلى الله عليه وآله) في طريق هجرته الى المدينة.
الثانية: ما نزل بمكّة وحواليها- ولو بعد الهجرة- فهو مكيّ، وما نزل بالمدينة وحواليها فهو مدنيّ. وما نزل خارج البلدين، بعيداً عنهما فهو لا مكيّ ولا مدنيّ، كقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾. قيل: نزلت بالحديبيّة حينما صالح النبيّ (صلى الله عليه وآله) مشركي قريش فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم... فقال سهيل بن عمرو وسائر المشركين ما نعرف الرحمان إلاّ صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذّاب، فنزلت الآية وهكذا آية الأنفال نزلت في بدر عندما اختصم المسلمون في تقسيم الغنائم لا مكيّة ولا مدنيّة، على هذا الاصطلاح.
الثالثة: ما كان خطاباً لأهل مكة فهو مكيّ، وما كان خطاباً لأهل المدينة فهو مدنيّ، وهذا الاصطلاح مأخوذ من كلام ابن مسعود: (كلّ شيئ نزل فيه يا أيها الناس فهو بمكة. وكل شيئ نزل فيه يا أيها الذين آمنوا فهو بالمدينة). قال الزركشي: لأنّ الغالب على أهل مكة الكفر، والغالب على أهل المدينة الإيمان.
وهذا الاختلاف في تحديد المكيّ والمدنيّ أوجب اختلافاً في كثير من آيات وسور: أنّها مكيّة أم مدنيّة(2). غير أنّ المعتمد من هذه المصطلحات هو الأوّل، وهو المشهور الذي جرى عليه أكثريّة أهل العلم(3) وكان تحديدنا الآتي في نظم السور حسب ترتيب نزولها معتمداً على هذا الاصطلاح.
نعم، الطرق الى معرفة مواقع النزول: أنّها كانت بمكة أو بالمدينة أو بغيرهما، قليل جداً، لأنّ الأوائل لم يعيروا هذه الناحية المهمّة اهتماماً معتدّاً به، سوى ما ذكروه في عرض الكلام استطراداً، وهي استفادة ضئيلة للغاية، ومن ثم يجب لمعرفة ذلك ملاحظة شواهد وقرائن من لفظ الآية أو استفادة من لهجة الكلام، خطاباً مع نوعية موقف الموجّه اليهم، أكان في حرب أم في سلم، وعد أم وعيد، إرشاد أو تكليف...؟ فيما إذا أوجب ذلك علماً أو حلاّ قطعيّاً لمشلكة في لفظ الآية، كما في قوله: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾(4)، فإنّ مشكلة دلالتها على مطلق الترخيص دون الإلزام والإيجاب، تنحلّ بما أثّر في سبب نزولها(5). الأمر الذي يوجب الثقة بصحة الأثر، مع غضّ النظر عن ملاحظة السند، ومن ثم فهي مدنيّة.
قال الجعبري: لمعرفة المكيّ والمدنيّ طريقان: سماعيّ قياسيّ. فالسماعيّ ما وصل إلينا نزوله بأحدهما. والقياسيّ، قال علقمة عن ابن مسعود: كلّ سورة فيها (يا أيها الناس) فقط، أو (كلا) أو أوّلها حروف تهجّ سوى الزهراوين (البقرة وآل عمران) والرعد - في وجه- أو فيها قصة آدم وإبليس سوى الطولى (البقرة) أو فيها قصص الأنبياء والأُمم الخالية، فهي مكيّة. وكلّ سورة فيها حدّ أو فريضة، فهي مدنيّة. وفي رواية: كل سورة فيها: (يا أيها الذين آمنوا) فهي مدنيّة.
قال الزركشي: وهذا القول - الأخير- إن أخذ على اطلاقه ففيه نظر، فإنّ سورة البقرة مدنيّة وفيها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾(6)، وفيها: ﴿أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً﴾(7). وسورة النساء مدنية وفيها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾(8). وفيها ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾(9). فإن أراد المفسّرون أنّ الغالب ذلك فهو صحيح، ولذا قال مكي بن حموش: هذا إنّما هو في الأكثر وليس بعامّ. وفي كثير من سور مكيّة ﴿يَا أيُّها الذين آمنوا﴾(10).
وقال القاضي أبو بكر: كانت العادة تقضي بحفظ الصحابة ذلك، غير أنّه لم يكن من النبيّ (صلى الله عليه وآله) في ذلك قول، ولا ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا وإنّما لم يفعله لأنّه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأُمة، وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم، لمّا لم يعتبروا ذلك من فرائض الدين، لم تتوفّر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذلك على أسماعهم. وإذا كان الأمر على ذك ساغ أن يختلف من جاء بعدهم في بعض القرآن: هل هو مكيّ أو مدنيّ؟ وأن يعملوا في القول بذلك ضرباً من الرأي والاجتهاد...(11).
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة
1- الإتقان: ج1 ص9.
2- القصص: 85.
3- البرهان: ج1 ص197.
4- الرعد: 30.
5- مجمع البيان: ج6 ص293
6- الأنفال: 1.
7- راجع السيرة لابن هشام: ج2 ص322
8- مستدرك الحاكم: ج3 ص18.
9- البرهان: ج1 ص187
10- كما في آية الأمانات من سورة النساء: 58 زعمها النحاس مكيّة لرواية ابن جريح راجع مجمع البيان: ج3 ص63.
11- راجع البرهان: ج1 ص187. والاتقان ج1 ص9.
كان المسلمون يتحرّجون العي بين الصفا والمروة، زعما أنّها عادة جاهليّة تكريماً بمقام أساف وفائلة، فنزلت الآية دفعاً لهذا الوهم. راجع مجمع البيان: ج1 ص240.
لم نجد في سورة مكيّة (يا ايها الذين آمنوا) نعم فيها كثير ذكر (الذي آمنوا) بلاخطاب. كما في سورة ص والزمر و غافر وفصلت وغيرها.
راجع البرهان: ج1 ص190-192.
البقرة: 158
البقرة: 21.
البقرة: 168.
النساء: 1.
النساء: 13.