حلف سبحانه في سورة البروج بأُمور أربعة:

أ: ﴿السَّماءُ ذات البُرُوج﴾: المنازل.

ب: ﴿اليَوم المَوعُود﴾: القيامة.

ج: شاهد

د: مشهود.

          قال سبحانه: ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ البُروجِ *وَاليَومِ المَوعُودِ *وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحاب ُالاَُخدُودِ * النارِ ذاتِ الوَقُودِ *إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ *وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمْوَمِنينَ شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُوَْمِنُوا بِاللّهِ العَزيزِ الحَمِيد﴾.(1)

          فأقسم سبحانه بالعالم العلوي وهو السماء وما فيها من المنازل التي هي أعظم الاَمكنة وأوسعها ثمّ أقسم بأعظم الاَيّام وأجلّها الذي هو مظهر ملكه وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدل.

          ثم أقسم بكلّ شاهد ومشهود -إذا كان اللام للجنس- فيكون المراد كلّ مدرِك ومدرَك وراع ومرعي، والمصداق البارز له هو النبي الذي سمّي شاهداً كما سيوافيك، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة، فلنرجع إلى تفسير الآيات.

تفسير الآيات

أمّا السماء: فكلّ شيء علاك فهو سماء، قال الشاعر في وصف فرسه:

وأحمر كالديباج أمّا سمـاوَه * فريّاً وأمّا أرضـه فمحـول

          وقال بعضهم كلّ سماء بالاِضافة إلى ما دونها فسماء، وبالاِضافة إلى ما فوقها فأرض وسمي المطر سماءً لخروجه منها.

          وأمّا البروج واحدها برج ويطلق على الاَمر الظاهر وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين، ويسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً، والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء.

          وربما يفسر بالمنازل الاثنى عشر للقمر، لاَنّ القمر يصير في كلّبرج يومين وثلث يوم، وذلك ثمانية وعشرون يوماً، ثمّ يستتر ليلتين ثمّ يظهر.

وربما يفسر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب، ولكن الاَولى ما ذكرناه منازل النجوم على وجه الإطلاق.

          واليوم الموعود عطف على السماء وهو يوم القيامة الذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ويوم الفصل والجزاء الذي وعد اللّه به على ألسنة رسله وفيه يتفرد ربّنا بالملك والحكم.

وقد وعد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرّة وقال:

﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين﴾.(2)

وقال: ﴿أَلا إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلكِنّ أَكْثَرهُمْ لا يََعْلَمُون﴾.(3)

وقال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنّوَعْدَ اللّهِ حَقّ﴾.(4)

إلى غير ذلك من الآيات التي سمّى اللّه سبحانه فيها ذلك اليوم بوعد اللّه.

          وشاهد ومشهود، اللفظان معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم، وأمّا ما هو المقصود؟ فالظاهر انّ الشاهد هو من عاين الاَشياء وحضرها،وأوضحه مصداقاً هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاَنّه سبحانه وصفه بكونه شاهداً، قال: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً﴾.(5)

          نعم تفسيره بالنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب الجري والتطبيق على أفضل المصاديق وإلاّ فله معنى أوسع، يقول سبحانه: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّه عَمَلكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُوَْمِنونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيبِ وَالشَّهادةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾(6) فقد عدّ الموَمنين شهوداً على الاَعمال، فإنّ الغاية من الروَية هو الشهود.

          وتدل الآيات على أنّ نبي كلّأُمّة شاهد على أُمّته، قال سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْل ِالكِتابِ إِلاّ ليُوَْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَومَ القِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾.(7)

وأمّا المشهود فالمراد منه يوم القيامة، لاَنّه من صفات يومها، قال سبحانه:

          ﴿ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود﴾(8) والمراد به ﴿ذلك يوم مجموع له الناس﴾ أي يجمع فيه الناس كلّهم الاَوّلون والآخرون منهم للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم ﴿وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُود﴾ أي يشهده الخلائق كلّهم من الجن والاِنس وأهل السماء وأهل الاَرض أي يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق.(9)

هذا كلّه حول المقسم به، وأمّا المقسم عليه فيحتمل أن يكون أحد أمرين:

أ: ﴿قُتِلَ أَصحابُ الاَُخْدُود﴾ وفسره بقوله: ﴿النّارِ ذات الوقُود﴾ أي أصحاب الاَُخدود هم أصحاب النّار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها، ويكون حريقها عظيماً، ولهيبها متطايراً.

ثمّ أشار إلى وصف آخر لهم ﴿إِذْ هُمْ عَلَيها قُعُود﴾ أي أحرقوا الموَمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ويوضحه قوله في الآية اللاحقة: ﴿وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُوَْمِنينَ شُهُود﴾ أي أُولئك الجبابرة الذين أحرقوا الموَمنين كانوا حضوراً عند تعذيبهم يشاهدون ما يُفعل بهم، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم، كما فيه إيماء إلى قوة اصطبار الموَمنين وشدّة جلدهم ورباطة جأشهم.

وأمّا الصلة بين ما حلف به من السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود وجواب القسم فهي انّه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج والبروج آية الدفاع حيث كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنية على سور البلد عن بلدهم، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماء ِبُرُوجاً وَزَيَّنّاها لِلنّاظرين*وَحَفِظْناها مِنْ كُلّ شَيطانٍ رَجِيم﴾.(10)

          فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام مبيناً بأنّ اللّه الذي كما يدفع بالبروج عن السماء كيد الشياطين كذلك يدفع عن إيمان الموَمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين.

          ثمّ أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيها الناس بأعمالهم فهو يجزي أصحاب الاَُخدود بأعمالهم، وأقسم بالشاهد الذي يشاهد أعمال الآخرين، وأقسم بمشهود أي كل ما يشهده الشاهد وهو انّه سبحانه تبارك وتعالى يعاين أعمالهم ويشاهدها.

          ويمكن أن يكون جواب القسم، قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُوَْمِنينَ وَالْمُوَْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَريق *إِنَّ الَّذينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ ذلِكَ الْفَوزُ الكَبير﴾.(11)

فاللّه سبحانه يوعد الكفّار ويعد الموَمنين.

          وأمّا وجه الصلة فواضح أيضاً بالنسبة إلى ما ذكرنا في الوجه الاَوّل، ويحتمل أن يكون الجواب قوله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشدِيد *إِنَّهُ هُُوَ يُبْدِىَُ وَيُعِيد﴾ (12)

والمناسبة تلك المناسبة فلا نطيل.

ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً يدل عليه الآيات المتقدمة، والمحذوف كالتالي:

إيعاد الفاتنين ووعد الموَمنين وهكذا.


1-البروج: 1 ـ 8.

2-يونس: 48.

3-يونس: 55.

4-الكهف: 21.

5-الاَحزاب: 45.

6-التوبة: 105.

7-النساء: 159.

8-هود: 103.

9-مجمع البيان: 5|191.

10-الحجر: 16ـ 17.

11-البروج: 10ـ 11.

12-البروج: 12ـ 13.