القسم في سورة المدثر

حلف سبحانه في سورة المدثر بأُمور ثلاثة، هي: القمر، و الليل عند إدباره، والصبح عند ظهوره، قال: ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ وَما هِيَ إِلاّذِكْرى لِلْبَشَر *كَلاّ وَالقَمَرِ * وَاللّيلِ إِذا أَدْبَر * والصُّبحِ إِذا أَسْفَرَ * إِنَّها لاِحْدَى الكُبَرِ * نَذيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شاءَ مِنْكمْ أَنْ يَتَقدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ﴾.(1)

تفسير الآيات

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور ثلاثة ترتبط بعضها بالبعض، ويأتي الثاني عقب الاَوّل.

فأمّا القمر يتجلّى في اللّيل، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور، لاَنّه يختفي نوره في النهار لتأثير الشمس فإذا تجلّى القمر في الليل شيئاً فشيئاً فيأتي نهاية الليل، الذي عبّر عنه سبحانه: ﴿إِذا أدْبر﴾ وتكون النتيجة طلوع الفجر الذي عبر عنه سبحانه ﴿والصُّبحِ إِذا أَسْفَر﴾، فكأنّه يقول سبحانه:احلف بتجلّي القمر في وسط السماء الذي يسير مع الليل شيئاً فشيئاً، إلى أن يدبر ويسفر الصبح، هذا مفاد الآيات التي تضمّنت المقسم به.

ثمّ إنّ الكُبُـر جمع الكبرى، وهي العظمى أي إحدى العظائم، وأمّا ما هو المراد من العظائم، فسيوافيك بيانه عن قريب.

ثمّ إنّه سبحانه حلف في هذه الآيات بأُمور ثلاثة:

1. القمر على وجه الاِطلاق.

2. الليل إذا أدبر، أي الليل عند انتهائه.

3. الصبح حينما يسفر ويتجلّـى.

وأمّا المقسم عليه فهو عبارة عن قوله:﴿إِنَّها لاِحدى الكِبَر* نَذيراً لِلْبَشَر* لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقدَّم أَوْ يَتَأَخَّر﴾.

والكلام في مرجع الضمير في قوله "إنّها"، ففيه وجهان:

الاَوّل: أنّ الضمير يرجع إلى "سقر" الواردة في الآيات المتقدمة، أعني قوله تعالى: ﴿وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبقي وَلا تَذَر * لَواحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيها تِسْعَةُ عَشَر﴾. (2)

أي انّ سقر هي إحدى الدواهي الكبرى، فهي نذيرة للبشر ومخوّفة لمن شاء منكم أن يتقدّم في طاعة اللّه أو يتأخر عنها بالمعصية، ولفظة "سقر" من الموَنثات السماعية، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها الموَنثات السماعية في أحد وعشرين بيتاً، وقال:

و كذاك في كبد و في كرش و في سقر ومنها الحرب و النعلان (3)

الثاني: أنّ الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه: ﴿كَلاّ إِنَّهُ كانَ لآياتِنا عَنيداً﴾. وعلى هذا فالآيات القرآنية لاِحدى الدواهي وهي النذيرة لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع دون المتأخر.

هذا كلّه حول المقسم به، وأمّا المقسم عليه فهو قوله: ﴿إنّها لاِحدى الكبر﴾.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فعلى التفسير الثاني من الوضوح بمكان، حيث إنّ القمر في الليل الدامس يهدي السائرين، كما أنّ الصبح وطروء النهار يبدّد الظلام ويظهر النور، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية، ومعادن النور ومظاهره، بُغية إثبات أنّ القرآن لاِحدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشر إلى سبيل الرشاد.

وأمّا على التفسير الاَوّل، ورجوع الضمير إلى سقر فالمناسبة خفية، إلاّ أن يقال بأنّ المقسم به أي القمر في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته الكبرى كما أنّ سقراً أيضاً كذلك.

ولا يخفى انّالقسم بالقمر جاء للتأكيد على عظمته، فهو أقرب الاَجرام السماوية للاَرض وأقل حجماً منها، يدور حول الاَرض مرّة كلّ شهر، وجاذبية القمر مع جاذبية الشمس هي سبب المد والجزر.

وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس 120 درجة مئوية، أي أعلى من درجة غليان الماء، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمّد الماء بقدر يبلغ 150 درجة.

كما أنّ سطحه صحاري وقفار تتناهض فيها البراكين الخامدة، وجباله ضخمة عظيمة يبلغ ارتفاعها 42 ألف قدم بزيادة تقرب من 13 ألف قدم عن أعلى جبل على الاَرض، وفوهات البراكين هائلة العظمة يبلغ قطر أكبرها100 ميل، وجباله أقدم بكثير من سلاسل الجبال الاَرضية بملايين السنين.(4)


1- المدثر:31ـ 37.

2- المدثر:27ـ30.

3- روضات الجنات:5|186.

4- اللّه والعلم الحديث: 27.