لقسم بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرَّتين، فتارة بعمره وحياته، وأُخرى بوصفه وكونه شاهداً، ويقع البحث في مقامين:
المقام الاَوّل: الحلف بعمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
حلف سبحانه بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة واحدة، وقال حينما عرض قصة لوط: ﴿قالَ هوَلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلين*لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِين﴾. (1)
تفسير الآيات
أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطاً يبشرونه بهلاك قومه، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط فرح الفجّار بورودهم، فقال لهم لوط مشيراً إلى بناته ﴿انّ هوَلاء بناتي﴾ "فتزوجوهنّ إن كنتم فاعلين وكانت لكم رغبة في التزويج، ولكن قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط وكانوا مصرّين على الفجور بهم، غافلين عن أنّ العذاب سيصيبهم واللّه سبحانه يحلف بحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقول: ﴿لعمركَ انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾ فلا يبصرون طريق الرشد ﴿فَأَخذتهُم الصَّيحة﴾ أي الصوت الهائل ﴿مشرقين﴾ أي في حال شروق الشمس.
المقسم به
المقسم به هو عبارة عن العمر، أعني في قوله: "لعمرك" يقول الراغب: العَمر والعُمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، إلى أن قال: والعَمر والعُمر واحد لكن خصَّ القسم بالعَمر دون العُمر، كقوله سبحانه: ﴿لَعَمْرُكَ انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾.
وأما العُمُر فكما في قوله سبحانه:﴿فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر﴾، وفي آية أُخرى:﴿لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين﴾.
فاللفظان بمعنى واحد لكن يختص القسم بواحد منهما. (2)
المقسم عليه
هو قوله: ﴿انَّهُمْ لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾، والمراد أقسم بحياتك وبقائك يا محمد، انّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا يبصرون طريق الرشد.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.
قال ابن عباس: ما خلق اللّه عزّوجلّ وماذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلاّ بحياته فقال لعمرك(3) وجه الصلة أنّه سبحانه بعث الاَنبياء عامة، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعمُّ الناس، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.
المقام الثاني: الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد
حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود، وقال: ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج* وَالْيَومِ المَوعُودِ* وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصحابُ الاَُخدُود﴾. (4)
أمّا المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة انّ المراد منه يوم القيامة بشهادة، قوله سبحانه: ﴿ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود﴾ (5)
إنّما الكلام في الشاهد، فالمراد منه هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة أنّه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرّات، وقال:
﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾. (6)
﴿انّاأَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ﴾. (7)
﴿إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾. (8)
والآيات صريحة في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي بعض الآيات عرّفه بأنّه ﴿شهيداً﴾، ويقول: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾. (9)
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هوَلاء﴾. (10)
هذه الآيات تعرب عن أنّ المقسم به هو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بما انّه شاهد على أعمال أُمّته وشهيداً عليها.
سئل الحسن بن علي (عليهما السلام) عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه: ﴿وشاهدٍ وَمَشْهُود﴾؟ فقال: أمّا الشاهد فمحمد "صلى الله عليه وآله وسلم"، وأمّا المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: ﴿إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً﴾، وقال تعالى: ﴿ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود﴾. (11)
معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال: الشهود والشهادة، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة، وقد يقال للحضور مفرداً عالم"الغيب والشهادة" وقد نقل القرآن شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قومه يوم القيامة، فقال: ﴿يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً﴾. (12)
هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ولا يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات، قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هوَُلاءِ شَهيداً﴾. (13) وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُوَذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون﴾ (14)
وقال عزّ اسمه: ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء﴾. (15)
والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع -على إطلاقها- هو الشهادة على اعمال الاَُمم، وعلى تبليغ الرسل كما يومىَ إليه، قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين﴾. (16)
وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا. قال سبحانه: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾. (17)
وعلى ضوء ذلك يثار هذا السوَال في الذهن،وهو:
إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهراً مع جميع الاَُمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئاً لا يذكر، فكيف يشهد وهولم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة؟
وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً وهو: انّ الشهادة على ظاهر الاَعمال ليست مفيدة يوم القيامة،بل الشهادة على باطن الاَعمال من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة، وانّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته، أو نفاقاً لاَجل حطام الدنيا، فهذا النوع من الاَعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه؟
وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الاَعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من اللّه سبحانه، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء،وانقياد وتمرّد، وإيمان وكفر، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الاِنسان، وعند ذلك يقوم النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" ويقول: ﴿يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً﴾.
فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الاَُمّة، لا الاَُمة بأسرها،وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه:﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَعَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً﴾ (18) هم الكاملين من الاَُمّة لا المتوسطين وما دونهم.
وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي، في قوله تعالى:﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً﴾ فليس بشيء بديع، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الاَُمّة وينسب الحكم إلى جميعهم، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل:﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً﴾ على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الاَصابع.
وثمة حديث منقول عن الاِمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً﴾ يوَيد هذا المعنى"الشهادة للاَمثل":"فإن ظننت أنّاللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى انّمن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الاَُمم الماضية؟ كلا: لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الاَُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ﴿كنتم خير أُمّة أُخرجت للناس﴾ وهم الاَُمّة الوسطى، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس". (19)
الحلف بالنبي كناية
ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كناية، قال سبحانه: ﴿لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد *وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَد ْخَلَقْنَا الاِنْسانَ في كَبَد﴾. (20)
والحِلُّ بمعنى المقيم وكأنّه سبحانه يقول: وأنت يا محمد مقيم به، وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّبه وهو الرسول الداعي إلى توحيده، وإخلاص عبادته، وبيان أنّ تعظيمه له وقسمه به لاَجله ولكونه حالاً فيه، كما سميت المدينة طيبة لاَنّها طابت به حيّاً وميتاً. (21)
وكأنّ الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين، وانّقداسة مكة والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبييقول العلاّمة الطباطبائي: والحل مصدر كالحلول بمعنى الاِفاضة والاستقرار في مكان، والمصدر بمعنى الفاعل، والمعنى: أقسم بهذا البلد، والحال انّك حال به مقيم فيه، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه. (22)
1- الحجر:71ـ 73.
2- المفردات: 347، مادة عمَر.
3- مجمع البيان: 3|342.
4- البروج:1ـ4.
5- هود:103.
6- الاَحزاب:45.
7- المزمل:15.
8- الفتح:8.
9- البقرة:143.
10- النحل:89.
11- البحار:1|13.
12- الفرقان:30.
13- النساء:41.
14- النحل:84.
15- الزمر:69.
16- الاَعراف:6.
17- المائدة:117.
18- البقرة:143.
19- الميزان:1|332.
20- البلد:1ـ4.
21- مجمع البيان:10|492.
22- الميزان: 20|289.