تواتر القرآن من الضروريات

 

مقدمة

قد أسلفنا في التمهيد من بحث " أضواء على القراء " بعض الآراء حول تواتر القراءات وعدمه وأشرنا إلى ما ذهب إليه المحققون من نفي تواتر القراءات، مع أن المسلمين قد أطبقوا على تواتر القرآن نفسه.

 

والآن نبدأ بالاستدلال على ما اخترناه من عدم تواترها بأمور:

الاول: إن استقراء حال الرواة يورث القطع بأن القراءات نقلت الينا بأخبار الآحاد. وقد اتضح ذلك فيما أسلفناه في تراجمهم فكيف تصح دعوى القطع بتواترها عن القراء. على أن بعض هؤلاء الرواة لم تثبت وثاقته.

 

الثاني: إن التأمل في الطرق التي أخذ عنها القراء، يدلنا دلالة قطعية على أن هذه القراءات إنما نقلت إليهم بطريق الآحاد.

 

الثالث: اتصال أسانيد القراءات بالقراء أنفسهم يقطع تواتر الاسانيد حتى لو كانت رواتها في جميع الطبقات ممن يمتنع تواطؤهم على الكذب، فإن كل قارئ إنما ينقل قراءته بنفسه.

 

الرابع: احتجاج كل قارئ من هؤلاء على صحة قراءته، واحتجاج تابعيه على ذلك أيضا، وإعراضه عن قراة غيره دليل قطعي على أن القراءات تستند إلى اجتهاد القراء وآرائهم، لانها لو كانت متواترة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يحتج في إثبات صحتها إلى الاستدلال والاحتجاج.

 

الخامس: ان في إنكار جملة من أعلام المحققين على جملة من القراءات دلالة / صفحة 152 / واضحة على عدم تواترها، إذلو كانت متواترة لما صح هذا الانكار فهذا ابن جرير الطبري أنكرقراءة ابن عامر، وطعن في كثير من المواضع في بعض القراءات المذكورة في السبع، وطعن بعضهم على قراءة حمزة، وبعضهم على قراءة أبي عمرو، وبعضهم على قراءة ابن كثير.

 

وأن كثيرا من العلماء أنكروا تواتر ما لا يظهر وجهه في اللغة العربية، وحكموا بوقوع الخطأ فيه من بعض القراء وقد تقدم في ترجمة حمزة إنكار قراءته من إمام الحنابلة أحمد، ومن يزيد بن هارون، ومن ابن مهدى ومن أبي بكر بن عياش، ومن ابن دريد.

 

قال الزركشي: - بعدما اختار أن القراءات توقيفية - خلافا لجماعة منهم الزمخشري، حيث ظنوا أنها اختيارية، تدور مع اختيار الفصحاء، واجتهاد البلغاء، ورد على حمزة قراءة " والارحام " بالخفض، ومثل ما حكي عن أبي زيد، والاصمعي، ويعقوب الحضرمي أنهم خطأوا حمزة في قراءته " وما أنتم بمصر خي " بكسر الياء المشددة، وكذلك أنكروا على أبي عمرو إدغامه الراء في اللام في " يغفر لكم ".

 

وقال الزجاج: " إنه غلط فاحش ".

 

تصريحات نفاة تواتر القراءات:

وقد رأينا من المناسب أن نذكر من كلمات خبراء الفن ممن صرح بعدم تواتر القراءات ليظهر الحق في السمألة بأجلى صوره: (1) هو عبد الرحمن بن مهدي قال في تهذيب التهذيب ج 6 ص 280: قال أحمد بن سنان: سمعت علي بن المديني يقول: " كان عبد الرحمن بن مهدي أعلم الناس "، قالها مرارا.

 

وقال الخليلي: " هو إمام بلا مدافعة ".

 

وقال الشافعي: " لاأعرف له نظيرا في الدنيا ". (2)

 

قال ابن الجزري: " كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمال، وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الائمة السبعة أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الائمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الاركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة سواء كانت من السبعة أم عمن هو أكبر منهم ".

 

هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف.

 

صرح بذلك الامام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الامام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الامام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحققه الامام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بأبي شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.

 

وقال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز: " فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الائمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وانها هكذا أنزلت، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا يتفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الاوصاف لا على من تنسب إليه، فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم، وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم: تركتن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم ". (3)

 

وقال ابن الجزري أيضا: " وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وان ما جاء مجئ الآحاد لا يثبت به قرآن.

 

هذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الاخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وجب قبوله، وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف، الثابت عن هؤلاء الائمة السبعة وغيرهم.

 

ولقد كنت - قبل - اجنح إلى هذا القول، ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف ".

 

وقال الامام الكبير أبو شامة في مرشده: " وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين، وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل فردفرد ما روي عن هؤلاء السبعة.

 

قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب.

 

ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق، واتفقت عليه الفرق، من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض، فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها ".

 

وقال السيوطي: وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراء في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير ابن الجزري. قال في أول كتابه - النشر - كل قراءة (4) وافقت العربية.

 

فنقل كلام ابن الجزري بطوله الذي نقلنا جملة منه آنفا.

 

ثم قال: قلت: أتقن الامام ابن الجزري هذا الفصل جدا ".

 

وقال أبو شامة في كتاب البسملة: " إنا لسنا ممن يلتزم بالتواتر في الكلمات المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر، وذلك بين لمن أنصف وعرف، وتصفح القراءات وطرقها ".

 

 وذكر بعضهم: " إنه لم يقع لاحد من الائمة الاصوليين تصريح بتواتر القراءات، وقد صرح بعضهم بأن التحقيق ان القراءات السبع متواترة عن الائمة السبعة بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد ".

 

وقال بعض المتأخرين من علماء الاثر: " ادعى بعض أهل الاصول تواتر كل واحد من القراءات السبع، وادعى بعضهم تواتر القراءات العشر وليس على ذلك إثارة من علم.

 

وقد نقل جماعة من القراء الاجماع على أن في هذه القراءات ما هو متواتر، وفيها ما هو آحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحد من السبع (5)(6)(7) فضلا عن العشر، وإنما هو قول قاله بعض أهل الاصول.

 

وأهل الفن أخبر بفنهم ".

 

وقال مكي في جملة ما قال: " وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه عاصم ونافع فإن قراءة هذين الامامين أولى القراءات، وأصحها سندا، وأفصحها في العربية ". (8) وممن اعترف بعدم التواتر حتى في القراءات السبع: الشيخ محمد سعيد العريان في تعليقاته، حيث قال: " لا تخلوا إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة فإن فيها من ذلك أشياء ".

 

وقال أيضا: " وعندهم أن أصح القراءات من جهة توثيق سندها نافع وعاصم، وأكثرها توخيا للوجوه التي هي أفصح أبو عمرو، والكسائي ".

 

ولقد اقتصرنا في نقل الكلمات على المقدار اللازم، وستقف على بعضها الآخر أيضا بعيد ذلك.

 

تأمل بربك.

 

هل تبقى قيمة لدعوى التواتر في القراءات بعد شهادة هؤلاء الاعلام كلهم بعدمه ؟ وهل يمكن إثبات التواتر بالتقليد، وباتباع بعض من ذهب إلى تحققه من غير أن يطالب بدليل، ولا سيما إذا كانت دعوى التواتر مما (9)

 

يكذبها الوجدان ؟ (10) وأعجب من جميع ذلك أن يحكم مفتي الديار الاندلسية أبو سعيد بكفر من أنكر تواترها !!! لنفرض أن القراءات متواترة، عند الجميع، فهل يكفر من أنكر تواترها إذا لم تكن من ضروريات الدين، ثم لنفرض أنها بهذا التواتر الموهوم أصبحت من ضروريات الدين، فهل يكفر كل أحد بإنكارها حتى من لم يثبت عنده ذلك ؟! أللهم إن هذه الدعوى جرأة عليك، وتعد لحدودك، وتفريق لكلمة أهل دينك !!!

 

المصدر:

البيان في تفسير القرآن - لزعيم الحوزة العلمية آيه الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي


1- التبيان ص 106 للمعتصم بالله طاهر بن صالح بن أحمد الجزائري. طبع في مطبعة النار سنة 1334.

2- التبيان ص 87.

3- النشر في القراءات العشر ج 1 ص 9.

4- النشر في القراءات العشر ج 1 ص 13.

5- الاتقان النوع 22 - 27 ج 1 ص 129.

6- التبيان ص 102.

7- نفس المصدر ص 105.

8- التبيان ص 106.

9- اعجاز القرآن للرافعي، الطبعة الرابعة ص 52، 53.

10- نفس المصدر ص 90.