المطلب الثالث: هل يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد أم لا؟
وقبل بيان الحق في المقام، لزمنا التصريح بأنه ليس لهذا البحث ثمرة فقهية لأن الأحكام الشرعية بما لها من العام والخاص والناسخ والمنسوخ قد وصلت إلينا من طرق أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ولم يوجد فيما بأيدينا من الأخبار خبر واحد يتضمن نسخ الكتاب، وبعد عدم وجود كصداق للخبر الواحد الناسخ للكتاب يكون البحث عن جواز نسخه بالخبر الواحد لغوًا من الجهة الفقهية.
فالبحث إما كلامي، وإن نظرنا إلى بعض أدلة المانعين من أن الحسن حسن دائمًا والقبيح قبيح دائمًا، وأما أصولي، إن نظرنا إلى احتجاج المانعين بأن القرآن قطعي وخبر الواحد ظني ولا يعارض الظني القطعي.
وكيف كان فقد أطال علماء الإسلام في لبحث عن النسخ، ونحن نقتفي آثارهم في الجملة.
وقد وقع الخلاف في جواز نسخ الكتاب عقلاً وسمعًا، وقبل الدخول في صميم البحث نقول: النسخ لغة عبارة عن الإزالة والإبطال والإعدام، تقول: نسخت الشمس الظل، يعني أزالته، وتقول: نسخت الريح آثار القدم، يعني أزالتها، ويراد من النسخ أيضًا النقل والتحويل، تقول: نسخت الكتاب أي نقلت كل مافيه - وتطبيق النقل على كتاب المثل مجاز عقلي -، ونسخت النحل من خلية إلى أخرى يعني حولتها من مكان إلى آخر، وبهذا المعنى يطلق النسخ على انتقال الإرث من وارث إلى آخر لموت بعض الورثة قبل تقسيم الميراث ويعبر عن ذلك بالمناسخات، وبهذا المعنى أيضًا يقال تناسخ الأرواح، يعني نقل الروح وتحويلها من بدن آخر.
واختلف الغويون في أن المعنى الحقيقي للنسخ هل هو الإزالة، كما عن الجواهري والمطرزي والفيروزآبادي إن أول النعاني الإزالة، أو هو النقل ومجاز في الإزالة كما عن القفال وابن فارس وفيومي صاحب مصباح المنير، أو هو مشترك لفظًا بين المعنيين، كما عن الغزالي والقاضي أبي بكر، أو هو مشترك معنوي بينهما كما عن الآمدي الميل إليه، حيث قال إن الاشتراك أشبه، إن لم يوجد في حقيقة النقل خصوص تبديل صفة وجودية، ثم إنه توقف جماعة في ما وضع له النسخ لغة، والمشهور أنه الإزالة، وتبعهم على ذلك العلامة وأبو الحسن البصري.
والتحقيق: أما من حيث الحكم فالمدار في باب الأخذ بمراد المتكلم هو الظهور العرفي سواء كان مستندًا إلى الوضع أو كان مستندًا إلى القرائن الكلامية، وأما من حيث الموضوع له النسخ فلا بد وأن يقال بأن الجامع القريب بين الإزالة والنقل موجود، وهو فراغ المحل عن الشاغل الوجودي، فإن لم يكن موارد فهم النقل من الكلام خصوصية أشغال المنقول لمحل آخر بعد فراغ للمحل الأول، كان النسخ مشتركًا معنويًا له مفهوم عام قابل للإنطباق على الإزالة والنقل، وصح ما قاله الآمدي في قوله: الاشتراك أشبه، وإلا فالحق مع المشهور أنه للإزالة وذلك للتبادر المستند إلى صميم اللفظ دون القرائن.
ثم اعلم أن نسخ الكتاب- بمعنى كتابه مماثل لكتاب- مجاز لفظي ومجاز عقلي معًا، وذلك لأنه قد استعمل النسخ أولاً في النقل، وهذا مجاز في الكلمة، وطبق النقل على إيجاد المماثل للمكتوب وهذا مجاز عقلي، وكيف كان فلا ثمرة عملية لمثل تلك التدقيقات لما عرفت من أن المدار في تفهيم المقاصد على الظهورات في المتفاهم العرفي، نعم في مورد فقدان أيَّة قرينة متصورة في المقام إذا سلمنا بقاعدة- الأصل في الاستعمال الحقيقة- يثمر البحث عن تشخيص الحقيقة من المجاز، ولكن الصغرى نادرة جدًا والكبرى غير مسلمة، هذا بحسب اللغة.
أما اصطلاحًا فقد عرف النسخ بتعاريف عديدة مذكورة أغلبها في شرح العضدي لمختصر الحاجبي.
1- قال الفخر الرازي هو اللفظ الدال على ظهور انتقاء شرط دوام الحكم الأول .
2- وقال الغزالي هو الخطاب الدال على ارتفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاهُ لكان ثابتًا مع تراخيه عنه.
3- وقال الفقهاء هو النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع تراخيه عن مورده.
4- وقال المعتزلة هو اللفظ الدال على أن مثل الكم الثابت بالنص المتقدم زائل عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا.
ولم يرتض بها جل العلماء، وقد عرفه العلامة والشيخ البهائي والحاجبي وجماعة برفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
المصدر:
كتاب آراء حول القرآن، لسماحة آية الله السيد علي الفاني الأصفهاني.