المطلب الثاني: موارد النسخ

 

قد أطال العلماء البحث في موارد النسخ ولا سيما علماء العامة، ففي ?الإتقان- للسيوطي في المسألة السابعة من النوع السابع والأربعين في ناسخه ومنسوخة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضراب:

 

أحدهم: ما نسخ تلاوته وحكمه معًا، قالت عائشة: كان ما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله(ص) وهن مما يقرأ من القرآن: رواه الشيخان. وقد تكلموا في قولها وهن مما يقرأ من القرآن فإن ظاهرة بقاء التلاوة وليس كذلك. وأجيب بأن المراد قارب الوفاء أو أن التلاوة نسخت أيضًا ولم يبلغ ذلك كا الناس إلا بعد وفاة النبي(ص) فتوفى وبعض الناس يقرؤها.

 

وقال أبو موسى الأشعري نزلت ثم رفعت، وقال مكي هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضًا غير متلو، ولا أعلم له نظيرًا(1).

 

الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة وهو على الحقيقة قليل جدًا وأن أكثر الناس من تعديد الآيات فيه فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي بين ذلك وأتقنه، والذي أقوله إن الذي أورده المكثرون أقسام، قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾(2)، ﴿وأنفقوا مما رزقناكم﴾(3)، ونحو ذلك.. قالوا انه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق.

 

أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة، ليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة.. والآية الثانية يصلح حملها على الزكاة، وقد فسرت بذلك.

 

وكذا قوله تعالى: ﴿أليس الله بأحكم الحاكمين﴾(4)، قيل: انها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدًا لا يقل هذا الكلام النسخ وإن كان الأمر بالتفويض وترك المعاقبة، وقوله في البقرة: ﴿وقولوا للناس حسنًا﴾(5)، عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف، وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر، فلا نسخ فيه، وقس على ذلك.

 

وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ: وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد كقوله: ﴿أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا﴾(6)، و﴿الشعراء يتبعهم الغاوون- إلى قوله- إلا الذين آمنوا﴾(7)، (فاعفوا وصفحوا حتى يأتي الله بأمره﴾(8)، وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية، وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ، ومنه قوله تعالى: ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ﴾(9).

 

قيل انه نسخ بقوله: ﴿والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب﴾(10)، وإنما هو مخصوص به، وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن كإبطال نكاح نساء الباء ومشروعية القصاص والدّية وحصر الطلاق في الثلاث وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجحه المكي وغيره، ووجهوه بأن ذلك لوعُدَّ في الناسخ لعد جميع القرآن منه، اذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب.

 

قالوا وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية، انتهى.

 

نعم، النوع الآخر منه وهو رافع ما كان في الإسلام إدخاله أوجه من القسمين قبله، إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون الجم الغفير مع آيات الصفح والعفو إن قلنا أن آية السيف لم تنسخها وبقي مما يصلح لذلك عدد يسير، وقد أفردته بأدلته في تأليف لطف، وها أنا أوردها هنا محررًا، فمن البقرة قوله تعالى: ﴿كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت﴾(11) الآية، منسوخة قبل: بآية المواريث، وقيل: بحديث: (ألا لاوصية لوارث)، وقيل: بالإجماع، حكاه ابن العربي، وقوله تعالى: ﴿وعلى الذين يطيقونه فدية﴾(12)، قيل منسوخة بقوله: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾(13)، وقيل: محكمة ولا مقدرة، قوله: ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث﴾(14)، ناسخة لقوله: ﴿كما كتب علي الذين من قبلكم﴾(15)، لأن مقتضات الموافقة فيما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم، ذكره إبن العربي، وحكى قولاً آخر انه نسخ لما كان بالسنة، قوله تعالى ﴿يسألونك عن الشهر الحرام﴾(16) الآية، منسوخة بقوله: ﴿وقاتلوا المشركين كافة﴾(17) الآية، أخرجه إبن جرير عن عطاء بن ميسرة، قوله تعالى: ﴿والذين يتوفون منكم ?إلى قوله-: متاعًا إلى الحول﴾(18)، منسوخة بآية أربعة أشهر وعشرًا والوصية منسوخة بالميراث، والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث ولا سكنى، قوله تعالى: ﴿وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله﴾(19)، منسوخة بقوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسًا الا وسعها﴾(20)، ومن آل عمران قوله تعالى: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾(21)، قبل انه منسوخ بقوله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾(22)، وقيل: لا، بل هو محكم وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية، ومن النساء قوله تعلى: ﴿والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم﴾(23)، منسوخة بقوله: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾(24)، وقوله تعالى: ﴿وإذا حضر القسمة﴾(25)، الآية، قيل منسوخة وقيل لا ولكن تهاون الناس في العمل بها، قوله تعالى: ﴿واللاتي يأتين الفاحشة﴾(26) الآية، منسوخة بآية النور من المائدة قولة تعالى: (ولا الشهر الحرام﴾(27)، منسوخة بإباحة القتال فيه، قولة تعالى: ﴿فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ (28)، منسوخة بقولة: ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾(29)، قولة تعالى: ﴿أو آخران من غيركم﴾(30)، منسوخ بقوله: ﴿واشهدوا ذوي عدل منكم﴾(31)، ومن الأنفال قوله تعالى: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون﴾(32) الآية منسوخة بالآية بعدها، ومن براءة قوله تعالى: ﴿انفروا خفافًا وثقالاً﴾(33)، منسوخة بآيات العذر وهو قوله تعالى: ﴿ليس على الأعمى حرج﴾(34) الآية، وقوله: ﴿ليس على الضعفاء﴾(35) الآيتين، وبقول: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾(36)، ومن النور قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية﴾(37) الآية، منسوخة بقوله: ﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾(38)، قوله تعالى: ﴿ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم﴾(39)، الآية قيل: منسوخة، وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها، ومن الأحزاب قوله تعالى: ﴿لا يحل لك النساء﴾(40) الآية، منسوخة بقوله: ﴿إنا أحللنا لك أزواجك﴾(41) الآية، ومن المجادلة قوله تعالى: ﴿إذا ناجيتم الرسول فقدموا﴾(42) الآية، منسوخة بالآية بعدها، ومن الممتحنة قوله تعالى: ﴿فأتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا﴾(43)، قيل منسوخ بآية السيف وقيل بآية الغنيمة وقيل محكم، ومن المزمل قوله: ﴿قم الليل إلى قليلا﴾(44)، منسوخ بآخر السورة ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس، فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها لا يصح دعوى النسخ في غيرها، والأصح في آية الاستئذان والقسمة الأحكام فصارت تسعة عشر، ويضم إليها قوله تعالى: ﴿فأينما تولوا فثم وجه الله﴾(45) على رأي إبن عباس أنها منسوخة بقوله: ﴿فول وجهك شطر المسجد الحرام﴾(46) الآية، فتمت عشرون، إلى آخر كلام السيوطي في الإتقان.

 

وقال العضدي في شرحه: النسخ إما للتلاوة فقط أو للحكم فقط أو لهما معًا والثلاثة جائزة، وخالف فيه بعض المعتزلة، لنا أن نقطع بالجواب فإن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها وما يدل عليه من الأحكام حكم آخر لها ولا تلازم بينهما وإذا ثبت ذلك فيجوز نسخا ونسخ أحدهما كسائر الأحكام المتباينة ولنا أيضًا الوقوع وانه دليل الجواز، أما التلاوة فقط فلما روى عمر أنه كان فيها أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله) وحكمه ثابت وإن خصص بالإحصان، وأما الحكم فكنسخ الاعتداد بالحول واللفظ مقروء، وإما هما معًا فما روت عائشة أنه كان فيما أنزل: (عشر رضعات محرمات) وقد نسخ تلاوته وحكمه، انتهى المقصود من كلامهما.

 

أقول يظهر من هؤلاء- علماء العامة- الاختلاف الكثير في مقدار النسخ وان كانوا متفقين على الظاهر في جواز نسخ التلاوة مع حكمها أو لا مع انه لا يمكن موافقتهم في مقدار المنسوخ من الآيات إذ أنّ التخصيص أو التقييد أو بيان أكمل المصاديق أو العدل التخييري او ما شابه ذلك لا يكون من النسخ المصطلح قطعًا.

 

وفي المقابل هؤلاء المكثرين للنسخ من أنكر وقوعه إطلاقًا وهو أبو مسلم إبن بحر الأصفهاني إذ قال بجواز النسخ وعدم وقوعه زاعمًا أن قوله تعالى: ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾(47)، يدل على عدم النسخ لأن النسخ إبطال للمنسوخ، وقد تصدى للجواب عن موارد النسخ، ولكنه توهُّم فاسد لأن معنى الآية أن القرآن بما هو كلام الهي ومنهج عبادي وقانون نظامي وميزان أخلاقي ومعيار إصلاحي ومنبع للعلوم وشامل للسعادات الدنيوية والأخروية وكافل للعدالة الفردية ولاجتماعية وجامع للجوامع الخيرية ودافع للرذائل الشرور على نحو العموم والكلية، لا يتصور في أي جانب من جوانبه توهم العثور على خطأ ولا يتقدمه كتاب سماوي أو قانون عقلي يقتضي بطلانه ولا يأتي من بعده كتاب سماوي أو رشد فكري يوجب بطلانه، وليس معنى الآية أنه لا يأتي لعامه خاص ولا لمطلقه مفيد ولا لحكمه غاية.

 

وأما علماء الشيعة فقد وافق الشيخ الطوسي (قده) علماء العامة في أغلب الموارد التي قالوا بالنسخ فيها، فقال في العدة:

 فصل: في ذكر جواز نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، جميع ما ذكرناه جائز دخول النسخ فيه لأن التلاوة إذا كانت عبادة، والحكم عبادة أخرى جاز وقوع النسخ في إحداهما مع بقاء الآخر كما يصح ذلك في كل عبادتين، وإذا ثبت ذلك جاز نسخ التلاوة دون الحكم والحكم دون التلاوة، - إلى أن قال -: وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فلا شبهة فيه لمل قلناه من جواز تعلق المصلحة بالحكم دون التلاوة ? إلى أن قال -: وأما جواز النسخ فيها فلا شبهة أيضًا فيه لجواز تغير المصلحة فيهما وقد ورد النسخ بجميع ما قلناه لأن الله تعالى نسخ اعتداد الحول بتربص أربعة أشهر وعشرًا ونسخ التصدق قبل المناجاة، ونسخ ثبات الواحد للعشرة، وإن كانت التلاوة باقية في جميع ذلك، وقد نسخ أيضًا التلاوة وبقي الحكم على ما روى من آية الرجم من قولة: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله) وإن ذلك مما أنزله الله والحكم باق بلا خلاف، وكذلك روى في تتابع صيام كفارة اليمين في قراءة عبدالله بن مسعود لأنه قد نسخ التلاوة والحكم باق عند من يقول بذلك وأما نسخهما معًا فمثل ما روى عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزله تعالى عشرة رضعات يحرمن ثم نسخت بخمس عشرة فخبرت بنسخه تلاوة وحكمًا، وإنما ذكرنا هذه المواضع على جهة المثال ولو لم يقع شيء منها لما أخل بجواز ما ذكرناه وصحته لأن الذي أجاز ذلك ما قدمناه من الدليل وذلك كاف في هذا الباب انتهى كلامه (ره).

 

وفي البحار(48) نقلاً عن تفسير النعماني: فمما سألوه عن الناسخ والمنسوخ فقال(ع): (ان الله تبارك وتعالى بعث رسوله(ص) بالرأفة والرحمة فكان من رأفته ورحمته انه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عادتهم حتى استحكم الإسلام في قلوبهم وحلت الشريعة في صدورهم فكانت من شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت وأقيم بأودها حتى يأتي الموت وإذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم وشتموه وآذوه وعيروه ولم يكونوا يعرفون غير هذا قال الله تعالى في أول الإسلام: ﴿واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً، واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ان الله كان توابًا رحيما﴾(49).

 

فلما كثر المسلمون وقوي الإسلام واستوحشوا أُمور الجاهلية أنزل الله تعالى: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾(50) إلى آخر الآية فنسخت هذه الآية الحبس والأذى.

 

ومن ذلك أن العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة وكان إذا مات الرجل ألقيت المرأة خلف ظهرها شيئًا بعرة وما جرى مجراها ثم قالت: البعل أهون عليّ من هذه فلا أكتحل ولا أمتشط ولا أتطيب ولا أتزوج سنة فكانوا لا يخرجون من بيتها بل يجرون عليها من تركة من زوجها سنة، فأنزل الله تعالى في أول الإسلام: ﴿والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليهن﴾(51) إلى آخر الآية.

 

ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى لما بعث محمدًا(ص) أمره في بدو أمره أن يدعو بالدعوة فقط وأنزل عليه: ﴿يا أيها النّبيّ إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيرًا، ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً﴾(52)، فبعثة الله تعالى بالدعوة فقط وأمره أن لا يؤذيهم فلما أرادوه بما هموا به تبييت أمره الله تعالى بالهجرة وفرض عليه القتال فقال سبحانه: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصلاهم لقدير﴾(53) فلما أمر الناس بالحرب جزعوا فأنزل الله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كُتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب﴾(54)، إلى قوله سبحانه: ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة﴾(55) فنسخت آية القتال آية الكف فلما كان يوم بدر وعرف الله تعالى حرج المسلمين أنزل الله تعالى على نبيّه: ﴿وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله﴾(56)، فلما قوي الإسلام وكثر المسلمون أنزل الله: ﴿فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم﴾(57)، فنسخت هذه الآية التي أذن لهم فيها أن يحتجوا ثم أنزل سبحانه في آخر السورة: ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم﴾(58) إلى آخر الآية. ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الأمة فجعل على الرجل الواحد أن يقاتل المشركين فقال: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين﴾(59) إلى آخر الآية. ثم نسخها سبحانه فقال: ﴿الآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفًا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مأتين﴾(60) إلى آخر الآية فنسخ بهذه الآية ماقبلها فصار من فرّ من المؤمنين في الحرب فإن كانت عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارًا من الزحف وان كان العدة رجلين لرجل كان فارّا من الزحف وقال (ع) ومن ذلك نوع آخر وهو أن رسول الله (ص) لما هاجر إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار جعل المواريث على الأخوة في الدين لا في ميراث الأرحام وذلك قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وجاهروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض _ إلى قوله سبحانه:- ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا﴾(61)، فاخرج الأقارب من الميراث وأثبته لأهل الهجرة وأهل الدين خاصة، ثم عطف بالقول فقال تعالى: ﴿والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادكبير﴾(62) فكان من مات المسلمين يصير ميراثه وتركته لأخيه في الدين دون القرابة والرحم الوشيجة فلما قوي الإسلام أنزل الله: ﴿النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفًا كان ذلك في الكتاب مسطورًا﴾(63)، فهذا المعنى نسخ آية الميراث، ومنه وجه آخر وهو أن رسول الله (ص) لما بعث كانت الصلاة إلى قبلة بيت المقدس سنة بني إسرائيل وقد أخبرنا الله بما قصه في ذكر موسى(ع) أن يجعل بيته قبلة وهو قوله: ﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة﴾(64) وكان رسول الله (ص) في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكه وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر، فعيرته اليهود وقالوا أنت تابع لقبلتنا فأحزن رسول الله (ص) ذلك منهم فأنزل الله تعالى عليه وهو يقلب وجهه في السماء وينتظر الأمر: ﴿قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة﴾(65)- يعني اليهود في هذا الموضع _، ثم أخبرنا الله عزّ وجلّ ما العلة التي من أجلها لم يحول قبلته من أول مبعثه فقال تبارك وتعالى: ﴿وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع أيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم﴾(66) فسمى سبحانه الصلاة هاهنا إيمانًا، وهذا دليل واضح على أن كلام الباري سبحانه لايشبه أفعاله أفعالهم، ولهذه العله وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب الله وتأويله إلا نبيّه (ص) وأوصياؤه.

 

ومن الناسخ ما كان مثبتًا في التوراة من الفرائض في القصاص، وهو قوله: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين﴾(67) إلى آخر الآية، فكان الذكر والأنثى والحر والعبد شرعًا سواء، فنسخ الله تعالى ما في التوراة بقواه: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحُّر بالحِّر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾(68) فنسخت هذه الآية: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس﴾(69).

 

ومن الناسخ أيضًا أمور غليظة كانت على بني إسرائيل في الفرائض فوضع الله تعالى تلك الآصار عنهم وعن هذه الأُمة فقال سبحانه: ﴿ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم﴾(70)، ومنه أنه تعالى لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان بالليل ولا بالنهار على معنى صوم بني إسرائيل في التوراة، فكان ذلك محرمًا على هذه الأُمة، وكان الرجل إذا نام أول الليل قبل أن يفطر فقد حرم عليه الأكل بعد النوم أفطر أو لم يفطر، وكان رجل من أصحاب رسول الله(ص) يعرف بطعم بن جبير شيخًا فكان في الوقت الذي حفر فيه جملة المسلمين وكان ذلك في شهر رمضان فلما فرغ من الحفر وراح إلى أهله صلى المغرب وأبطأت عليه زوجته بالطعام فغلب عليه النوم فلما أحضرت إليه الطعام أنبهته فقال لها استعمليه أنت فإني قد نمت وحرم عليّ وطوى إليه وأصبح صائمًا فغدا إلى الخندق وجعل يحفر مع الناس فغشى عليه فسأله رسول الله (ص) عن حاله فأخبره، وكان في المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرًا لقلة صبرهم فسأل النبي(ص) الله سبحانه في ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾(71)، فنسخت هذه الآية ما تقدمها.

 

 ونسخ قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والأنس إلاليعبدون﴾(72)، قوله عزّ وجلّ: ﴿ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾(73)، أي للرحمه خلقهم.

 

 ونسخ قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه _ واكسوهم(74) ? ﴿وقولوا لهم قولاً معروفًا﴾(75)، قوله سبحانه: ﴿يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين﴾(76) إلى آخر الآية.

 

ومن المنسوخ قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾(77)، نسخها قوله: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾(78).

 

ونسخ قوله تعالى: ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا﴾(79)، آية التحريم وهو قوله جلّ ثناؤه: ﴿قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والأثم والبغي بغير الحق﴾(80)، والأثم ها هنا هو الخمر.

 

 ونسخ قوله تعالى: ﴿وان منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا﴾(81)، قوله: ﴿إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لايسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر﴾(82).

 

ونسخ قوله تعالى: ﴿وقولوا للناس حسنًا﴾(83)، يعني اليهود حين هادنهم رسول الله (ص) فلما رجع من غزوة تبوك انزل الله تعالى: ﴿قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما أنزل الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾(84)، فنسخت هذه الآية تلك الهدنة، انتهى كلامه.

 

 وأنت بعد الإطلاع على أقوال العلماء من الشيعة والسنة علمت اختلافهم في مقدار المنسوخ من الآيات والأحكام.

 

 ثم أن هناك اختلافًا آخر، وهو الاختلاف في نسخ القرآن بالسنة، فقد ذهب أهل الظاهر إلى أن قوله تعالى: ﴿قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه﴾(85)، منسوخ بما روى من أنه (ص) نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وأن الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بقوله (ص) لا وصية لوارث، وان جلد الزاني نسخ في مورد المحض بما من رجمه، وأن إباحة نكاح غير المحارم المستفادة من قوله تعالى: ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾(86)، قد نسخ بما ورد من عدم جواز نكاح بنت الأخ أو بنت الأخت إلا بإذن عمتها أو خالتها، بقوله (ص) لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، بل ذكروا أن السنة تنسخ السنة، وذلك نظير ما ورد من طرق العامة بأنه (ص) قال: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروها)(87)، وكذا ما ورد أيضًا من طرقهم بأنه (ص) قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)(88)، ومع ذلك كله حاول أبو مسلم بن بحر الأصفهاني الجواب عن موارد النسخ بتوجيهات ذكروها بأجوبتها في المطولات، فأجاب عن اعتداد الزوجة في وفاة زوجها حولاً كاملاً:

 

الزوجة لو كانت حاملاً ومدة حملها حولاً اعتدت حولاً فلا نسخ بل هو تخصيص، فأجابوه بأن المنسوخ كون الحول مدارًا للاعتداد فلا يصح الجواب.

 

 وأجاب عن آية المناجاة بأنها نزلت لامتحان المسلمين وتميز المؤمنين من المنافقين منهم، فلما حصل ذلك الامتياز ارتفع ذلك الحكم لارتفاع سببه، فأجابوه بأن لازم أن يكون أكثر الصحابة من المنافقين.

 

وأجاب عن آية الثبات بأن الحكم باق إذ لو كانوا أبطالا والمائتان في غاية الجبن والضعف بحيث يعلم قصورهم عن المقاومة العشرين وجب الثبات فيكون تخصيصًا، فأجابوه بعد تسليم ما ادعاه بأن لازم ذلك ألا تكون خصوصية في العدد.

 

وأجاب عن آية التوجه إلى الكعبة بأن حكم التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية لوجوب التوجه إليه عند الاشتباه أو الغدر فهو تخصيص لا نسخ، فأجابوا بأن التوجه إلى بيت المقدس حال الإشتباه ليس مقصودًا لذاته، والأحسن الجواب بالمنع عن هذا الحكم.

 

المصدر:

كتاب آراء حول القرآن، لسماحة آية الله السيد علي الفاني الأصفهاني.


1- الأخلاط الأربعة: الصفراء- السوداء- البلغم- الدم.

2- سورة البقرة: الآية 286.

3- سورة المجادلة، الآية: 12.

4- سورة فصلت، الآية: 42.

5- سورة البقرة، الآية: 106.

6- ذكرنا في باب الرضاعة أن قول المعصوم(ع): كان يقال عشر رضعات: محمول على التقية بقرينة أن هذا هو قول العمة، واشاهد على صدق قولنا ما ترى من أن عائشة أسندت عشر رضعات إلى القرآن، ثم لم تقتنع حتى اكتفت في الرضاع المحرم على خمس رضعات وقد أخذنا بموثقة زيادة بن سوقة الدالة على أن العدد المحرم خمس عشرة رضعة، ومن العجيب ما عن بعض من المصير إلى العشرة وطرح خمسة عشر رضعة.

7- سورة البقرة، الآية: 3، والأنفال: 3 والحج: 35 والقصص: 54، واسجدة: 16، والشورى: 38.

8- سورة، البقرة، الآية: 254 والمنافقون: 10.

9- سورة التين، الآية: 8.

10- سورة البقرة، الآية: 83.

11- سورة العصر، الآيتان2و3.

12- سورة الشعراء، الآيتان224.

13- سورة البقرة، الآية: 109.

14- سورة البقرة، الآية:221.

15- سورة المائدة، الآية: 5.

16- سورة البقرة، الآية:180.

17- سورة البقرة، الآية: 184.

18- سورة البقرة، الآية: 185.

19- سورة البقرة، الآية: 187.

20- سورة البقرة، الآية: 183.

21- سورة البقرة، الآية: 217.

22- سورة التوبة، الآية: 36.

23- سورة البقرة، الآية: 240.

24- سورة البقرة، الآية: 284.

25- سورة البقرة، الآية: 286.

26- سورة آل عمران، الآية: 102.

27- سورة التغابن، الآية 16.

28- سورة النساء، الآية: 33.

29- سورة الأنفال، الآية: 75.

30- سورة النساء، الآية: 8.

31- سورة النساء، الآية: 15.

32- سورة المائدة، الآية: 2.

33- سورة المائدة، الآية: 42.

34- سورة المائدة، الآية: 49.

35- سورة المائدة، الآية: 106.

36- سورة الطلاق، الآية: 2.

37- سورة الأنفال، الآية: 65.

38- سورة التوبة، الآية: 41.

39- سورة البقرة، الآية: 61.

40- سورة التوبة، الآية: 91.

41- سورة التوبة، الآية: 122.

42- سورة النور، الآية: 3.

43- سورة النور، الآية: 32.

44- سورة النور، الآية: 58.

45- سورة الأحزاب، الآية: 52.

46- سورة الأحزاب، الآية: 50.

47- سورة المجادلة، الآية: 12.

48- سورة الممتحنة، الآية: 11.

49- سورة المزمل، الآية: 2.

50- سورة البقرة، الآية: 115.

51- سورة البقرة، الآية: 144 و149 و150.

52- سورة فصلت، الآية: 42.

53- سورة النساء، الآيتان: 15-16.

54- بحار الأنوار: 90 ص6 باب ما ورد عن أمير المؤمنين في أصناف الآيات...

55- سورة النور، الآية: 2.

56- سورة البقرة، الآية: 234.

57- سورة الأحزاب، الآية: 45-48

58- سورة الحج، الآية: 39.

59- سورة النساء، الآية: 77.

60- سورة النساء، الآية: 78.

61- سورة الأنفال، الآية: 61.

62- سورة محمد، الآية: 35.

63- سورة التوبة، الآية: 5.

64- سورة الأنفال، الآية: 65.

65- سورة الأنفال، الآية: 66.

66- سورة الأنفال، الآية: 72.

67- سورة الأنفال، الآية: 73.

68- سورة الأحزاب، الآية: 6.

69- سورة يونس، الآية: 87.

70- سورة البقرة، الأيتان: 144-150.

71- سورة البقرة، الآية: 143.

72- سورة المائدة، الآية: 45.

73- سورة البقرة، الآية: 178.

74- سورة المائدة، الآية: 45.

75- سورة الأعراف، الآية: 157.

76- سورة البقرة، الآية: 187.

77- سورة الذاريات، الآية: 56.

78- سورة هود، الآيتان: 118 و119.

79- سورة النساء، الآية: 5 وهي(وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفً).

80- سورة النساء، الآية: 8.

81- سورة النساء، الآية: 11.

82- سورة آل عمران، الآية: 102.

83- سورة التغابن، الآية: 16.

84- سورة النحل، الآية: 67.

85- سورة الأعراف، الآية: 33.

86- سورة مريم، الآية: 71.

87- سورة الأنبياء، الآيتان:101-103.

88- سورة البقرة، الآية: 83.