توطئة عن فكرة النسخ(1)
حين نريد أن نتعرف على فكرة النسخ (موضوعة البحث) يحسن بنا ان نفهمها من خلال مشابهاتها في حياتنا الاجتماعية المعاصرة. فاننا نشاهد ان بعض الدول قد تضع قانونًا لتنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض حكامًا او محكومين ثم نراها بعد تطبيقه مدة من الزمان تستبدل به قانونًا آخر يتكفل تنظيمًا جديدًا للعلاقات بين الناس. وحينئذ يمكن ان يقال ان هذا القانون الآخر نسخ القانون الاول وأصبح بدلاً عنه.
كما نشاهد ايضًا ان بعض الدول تضع مادة معينة في القانون الذي يجري تطبيقه ثم ترى ان تستبدلها بمادة اخرى مع الاحتفاظ بالقانون نفسه كمنهج عام للتنظيم الاجتماعي. وهذان النوعان من النسخ: نسخ القانون للقانون ونسخ مادة لمادة من القانون نفسه يمكن ان نتصورهما في التشريع الالهي بان تنسخ شريعة سماوية شريعة اخرى أو مادة في شريعة سماوية مادة من تلك الشريعة.
ولكن يوجد فارق أساسي بين النسخ في التشريع الالهي والنسخ في التشريعات الوضعية. ذلك ان النسخ في التشريع الالهي لا يكون الا بعد علم مسبق بوقوعه في ظروفه المعينة وفي وقته المحدد بخلاف النسخ في التشريع الوضعي حيث يكشف في أكثر الاحيان عن جهل بالواقع الموضوعي الذي وضع التشريع لمعالجته. وعندما ينكشف تخلف التشريع عن تحقيق غاياته.. ينسخ بتشريع آخر في سبيل محاولة لتحقيق تلك الغايات والاهداف.
النسخ لغة
أ. اللغة: للنسخ معان متعددة ذكرت في كتب اللغة وهي تدور بين النقل والازالة والابطال. فتقول (نسخ زيد الكتاب. اذا نقله عن معارضه).
ونسخ النحل اذا نقله من خلية الى اخرى وتقول. نسخ الشيب الشباب اذا أزاله وحل محله وتقول. نسخت الريح آثار القوم. اذا أبطلتها وعفت عليها(2). اللغويون حين يذكرون هذه المعاني المتعددة يختلفون في أي واحد منها هو المعنى الحقيقي للكلمة أو انها بأجمعها معاني حقيقية.
وتمييز المعنى الحقيقي للكلمة عن المعنى المجازي ليس في الواقع من الاهمية بقدر تحديد المعنى اللغوي الذي ينسجم مع فكرة النسخ ذاتها. وبهذا الصدد نجد ان الازالة هي أوفق المعاني اللغوية انسجامًا مع الفكرة التي عرضناها عن النسخ خصوصًا اذا لاحظنا ان فكرة النسخ في القرآن الكريم ورد التعبير عنها بمواد مختلفة تنسجم كلها مع الازالة.
ففي قوله تعالى ﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها﴾.
وقوله تعالى ﴿يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب﴾.
وقوله تعالى ﴿وإذا بدلنا آية مكان آيةٍ - واللّه أعلم بما ينزل - قالوا انّما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون﴾.
نجد الازالة هي المعنى الذي ينسجم مع المحو والتبديل.
المصدر:
كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم.
1- اعتمدنا في كتابة هذا البحث بشكل رئيسي على دراسة النسخ في القرآن لآية اللّه السيد الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن المدخل 189 - 276 وكتاب النسخ في القرآن للدكتور مصطفى زيد.
2- راجع بهذا الصدد لسان العرب 4/28 ط بولاق.