التمثيل الثامن والثلاثون - سورة العنكبوت

﴿مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون / إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم / وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إلاّ العالِمُون﴾(1).

تفسير الآيات:

ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة، وبيت العنكبوت أُخرى، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.

وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول: لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي: وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا يقدر على الدفع.

ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.

إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطاً في غاية الدقة، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سمـاً يوقف حركاتها، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها(2).

ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت، الذي يتألف من حائط هائل، وسقف مظلٍّ، وباب ونوافذ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب، ومن جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية، فلو هبّ عليه نسيم هادىَ لمزق النسيج، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.

هذا هو حال المشبه به، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ، لا تخلق ولا ترزق، ولا تقدر على استجابة أي طلب.

بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.

وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله: ﴿وَإنّ أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون﴾.

ثمّ إنّ قوله: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُون﴾ ليس قيداً لقوله: ﴿أوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ﴾، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن، وانّما هو من متمّمات قوله: ﴿اتَّخَذُوا﴾ أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً، ربما أعرضوا عنها.

ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى، وقال: ﴿إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم﴾ والظاهر انّ ﴿ما﴾ في قوله: ﴿ما يَدْعُونَ﴾ موصولة، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار وما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.

ثمّ قال سبحانه: ﴿وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إلاّ العالِمُون﴾ أي نذكر تلك الأمثال، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.


1- سورة العنكبوت / 41-43.

2- انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر ج6 / ص772.