التمثيل الرابع و الثلاثون ? سورة الحج
﴿يا أيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز﴾.(1)
تفسير الآيات:
كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية، ويعربون عن عقيدتهم، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه، و قد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات، قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم﴾.(2)
ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الأرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة، يقول سبحانه: ﴿أأرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار﴾(3) والآية وإن كانت تفصح عن عقيدة المشركين في عهد يوسف إلاّ أنّها تماثل إلى حد كبير عقيدة المشركين في مكة، بشهادة انّ الآية نزلت للتنديد بهم والحطِّ من عقيدتهم الفاسدة.
وهناك آيات أُخرى تكشف عن شركهم في الربوبية :
يقول سبحانه: ﴿و اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً لَعلَّهُمْ يُنْصَرُون﴾(4) فقد كانوا يعبدون آلهتهم في سبيل نصرتهم في ساحات الوغى، قال سبحانه: ﴿و اتّخذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً﴾.(5)
فكان الهدف من الخضوع لدى الآلهة هو طلب العزّ منهم في مختلف المجالات، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنّ مشركي عصر الرسول لم يكونوا موحدين في الربوبية، وإن كانوا كذلك في مجال الخالقية.
وهناك آيات كثيرة تصف الأصنام والأوثان بأنّها لا تملك كشف الضرّ، كما لا تملك النفع والضرّ، ولا النصر في الحرب، ولا العزة في الحياة ،كل ذلك يدل على أنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ في آلهتهم قوة وسلطاناً يكشف عنهم الضرّ ويجلب إليهم النفع، وهذه عبارة أُخرى عن تدبيرهم للحياة الإنسانية، يقول سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّر عَنْكُمْ وَلا تحْوِيلاً﴾.(6) وقال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرّك﴾.(7)
وقال تعالى: ﴿إن تَدَعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾(8) إلى غير ذلك من الآيات التي تبطل تدبير الآلهة المزيفة.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه سبحانه ضرب في المقام أمثالاً أبطل بها ربوبية الأصنام، بالبيان التالى:
أمّا الذباب، فهو عندهم أضعف الحيوانات وأوهنها، ومع ذلك فآلهتهم عاجزون عن خلق الذباب، وإن سلب الذباب منهم شيئاً لا يستطيعون استنقاذه منه.
فقد روي أنّ العرب كانوا يطلون الأصنام بالزعفران و رؤَوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، يقول سبحانه: ﴿يا أيُّها الناس ضربَ مثل فاستمعوا له انَّ الذينَ تَدعُون مِنْ دُونِ الله﴾ أي يعبدونه والدعاء هنا بمعنى العبادة، كما في قوله سبحانه: ﴿وَقالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِين﴾(9) فدعاؤَه سبحانه عين عبادته كما أنّ دعاء الآلهة المزيّفة ـ بما انّها أرباب عند الداعي ـ عبادة لها.
﴿لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له﴾ مع صغره وضعفه ﴿وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه﴾ كما عرفت من أنّ الذباب ربما يأكل العسل الموجود على رؤَوس الأصنام.
﴿ضعف الطالب والمطلوب﴾ وفيها احتمالات:
الأوّل: انّ المراد من الطالب و المطلوب هو العابد و المعبود، فالإنسان ضعيف كما هو واضح، وقال سبحانه: ﴿وَخلق الإنْسان ضعيفاً﴾ والمطلوب، أعني: الأصنام مثله لأنّه جماد لا يقدر على شيء.
الثاني: ويحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طليت به الأصنام، والمطلوب هي الأصنام التي تريد استنقاذ ما سلب منها.
الثالث: المراد من الطالب الآلهة فانّـهـم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم، والمطلوب الذباب حيث يطلب للاستنقاذ منه، والغاية من التمثيل بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة.
ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبين منشأ إعراضهم عن عبادة الله وانكبابهم على عبادة الآلهة، بقوله: ﴿ما قَدَرُوا الله حقّ قدره انّ اللهَ لقوىّ عَزيز﴾ أي ما نزلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر، فلو كان هوَلاء عارفين بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا رب سواه، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه، ولكن لم يقدروا الله بما يليق به، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم، مع أنّه سبحانه ﴿هو القويُّ العَزيز﴾ بخلاف الآلهة فانّهم الضعفاء والأذلاّء.
1- الحج:73ـ74.
2- الزخرف:9.
3- يوسف:39.
4- يَس:74.
5- مريم:81.
6- الإسراء:56.
7- يونس:106.
8- فاطر:14.
9- غافر:60.