التمثيل العاشر - سورة البقرة

﴿أيَوَّدُّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَأصابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفاءُ فَأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون﴾(1).

تفسير الآية:

ودّ الشيء: أحبه. و"الجنة" هي الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك، لأنّها تجن الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.

و"النخيل" جمع نخل أو اسم جمع.

و"الأعناب" جمع عنب وهو ثمر الكرم، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.

و"الإعصار" ريح عاصفة تستدير في الأرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود، جمعه أعاصير، وخصّ الأعاصير بما فيها نار، وقال: ﴿إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ﴾، وفيه احتمالات:

أ- أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.

ب- العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد.

ج- البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشيء ولو بتجفيف رطوبته.

والمتعين أحد الأوّلين دون الثالث، وإلاّ لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا: ﴿مَا يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيهَا صِرّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ فَأهْلَكتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾(2).

نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة(3). وعندئذ تّتحد الآيتان في المعنى.

وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يوَدي إلى إبادتها بسرعة.

ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول: ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَأعْنَابٍ﴾ الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما، يقول أيضاً: ﴿فِيهَا مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ﴾، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟

والظاهر انّ النخيل والأعناب لمّا كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعا ًخصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما.

إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.

وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.

أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملاً صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة، كما هو المروي عن ابن عباس، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والأذى.

قال الزمخشري: ضربت الآية مثلاً لرجل غني يعمل الحسنات، ثمّ بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها(4).

وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لَحِقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والأعناب تجري من تحتها الأنهار وله من كلّ الثمرات، وقد عقد على تلك الجنة آمالاً كبيرة، وفجأة هبّت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله، فالمنفق في سبيل الله الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.


1- سورة البقرة / 266.

2- سورة آل عمران / 117.

3- مجمع البيان ج1 / ص491.

4- الكشاف ج1 / ص299.