الحَصور في الآية بمعنى المتعفِّف
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(1).
يذكر عدد من المفسِّرين أنَّ معنى الحَصور في الآية هو العاجز عن معاشرة النساء، ويذكر آخرون أنَّه الممتنع عن معاشرة النساء، كيف يصحُّ ذلك والعجز عيبٌ، والامتناع عن المباح ليس مدحاً، والآية كما هو الواضح منها واردة في سياق المدح لنبيِّ الله يحيي (ع)؟
الجواب:
لا يتعيَّن مفاد الآية المباركة في المعنيين المذكورين بل الأقرب لسياق الآية هو عدم إرادة أيٍّ مِن المعنيين المذكورين.
أمَّا المعنى الأول: فهو أقربُ إلى التنقُّص منه إلى المدح، وحيثُ إنَّ الواضح من مَساق الآية هو أنَّها بصدد المدح لنبيِّ الله يحيى (ع) بالحَصور -ولا يصحُّ المدح بما يُعدُّ عيباً عرفاً بل وواقعاً- لذلك يتعيَّن البناء على عدم تماميَّة المعنى المذكور أعني دعوى أنَّ يحيى (ع) كان عاجزاً أو كما عبَّر بعضُهم أنَّه كان مصاباً بالعنَن وأنَّ له مثل هدبة الثوب أو أنَّه لا ماء له(2).
وهؤلاء وإنْ كانوا قد استندوا في دعواهم إلى روايتين نسبوهما إلى النبيِّ (ص) إلا أنَّه لا يصحُّ القبول بدعواهم نظراً لضعف الروايتين سنداً ولمنافاتهما وهو الأهم للظهور البيِّن للآية الشريفة
فالرواية الأولى: أوردها الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده عن عمرو بن العاص أنَّه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كلُّ بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ إلا ما كان من يحيى بن زكريا قال: ثم دلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده إلى الأرض فأخذ عوداً صغيرا، ثم قال: وذلك أنَّه لم يكن له ما للرجال إلا مثلُ هذا العود، ولذلك سمَّاه اللهُ سيِّداً وحَصوراً ونبيَّاً من الصالحين"(3).
ويكفي في سقوط هذه الرواية عن الاعتبار أنَّ راويها -الأب أو الابن- كان كلٌّ منهما ضمن البغاة الذين حاربوا الإمام أمير المؤمنين (ع) وكان ممَّن شاركوا في قتل عمَّار الذي تقتلُه الفئة الباغية وأنَّهم من الدعاة إلى النار.
والرواية الثانية: أوردها الطبراني في المعجم الأوسط بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "كلُّ بني آدم يلقاهُ الله يوم القيامة بذنبٍ قد أذنبه يُعذِّبه عليه إنْ شاء أو يرحمُه إلا يحيى بن زكريا فإنَّه كان سيِّدا وحَصورا ونبيَّاً من الصالحين، وأهوى النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال ذكرُه مثلُ هذه القذاة"(4).
وهي كذلك ساقطة عن الاعتبار سنداً لعدم الوثوق براويها بل هو متَّهمٌ بالكذب، هذا مضافاً إلى اشتمالها على حجاج بن سليمان الرعيني المتَّهم بكونه منكر الحديث كما في ميزان الاعتدال قال: قال ابن يونس: في حديثه مناكير. وقال أبو زرعة: منكر الحديث .."(5).
وأورد الطبري عن سعيد بن المسيَّب في تفسير قوله تعالى: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ أنَّه قال: الحصور: الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب"(6).
وفي تفسير ابن أبي حاتم قال: قرأ سعي: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ ثم أخذ شيئا من الأرض فقال: الحَصور ما كان ذكرُه مثلُ ذي، وأشار يحيى القطان بطرف إصبعه السبابة(7).
وظاهر كلامه أنَّ منشأ عدم غشيانه النساء هو أنَّه لم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب، وهدبةُ الثوب طرفُه مّما يَليِ طُرَّتَهُ(8)، ويُراد من ذلك أنَّه رِخْوٌ مثل طَرَفِ الثَّوبِ، لا يُغْني شيئاً، ويُستعمل هذا الوصف للتعبير عن أنَّ الواجد لذلك عنِّين، وكذلك فإنَّ تشبيه ما عنده بالقذاة والتي هي مثل قطعة الخشبة أو الحصاة الصغيرة يُراد منه التعبير عن ذلك وهو أقرب للمسبَّة والتعيير والكشف عن العيب المستور منه إلى المدح والثناء!!.
وعلى أيِّ تقدير فهذا الذي نُسب إلى سعيد بن المسيَّب ليس مُسنداً للنبيِّ (ص) فلعلَّه كان اجتهاداً منه، ولا اعتبار به نظراً لكونه منافياً لما عليه الظهور البيِّن للآية وأنَّها بصدد الثناء على نبيِّ الله (ع) ولا يصحُّ المدح بما يُعدُّ عيباً، فهو أقرب للتنقُّص منه إلى المدح، ومثله لا يصدر عن المتكلِّم البليغ لأنَّه من نقض الغرض، إذ أنَّه أراد المدح فجاء بما هو ذمٌّ، فهو على خلاف ما تقتضيه البلاغة والتي كان القرآن حائزاً لأعلا درجاتها، ولهذه القرينة البِّيِّنة يتعيَّنُ البناء على عدم اعتبار الرواية المنسوبة للنبيِّ الكريم (ص) في تفسير المراد من الحَصور في الآية.
وأمَّا المعنى الثاني وهو دعوى أنَّ يحيى (ع) كان لا يأتي النساء فإنْ كان المقصود من ذلك أنَّه كان عاجزاً تكويناً عن إتيان النساء فهو يرجع إلى المعنى الأول، وإنْ كان المراد من ذلك أنَّه كان يمتنع -رغم قدرته- عن إتيان النساء فهو لا يُعدُّ مدحاً، إذ أنَّ إتيان النساء من طريق التزويج يُعدُّ من الفطرة والتي كان عليها عامَّة الأنبياء والصالحين، ولم تكن ثمة شريعة من شرائع الله تعالى تمنعُ من ذلك أو تعتبره عملاً مرجوحاً، فلا معنى لأنْ يُمدح نبيٌّ بما لا يُعدُّ مدحاً فذلك لا يعدو المدح بالامتناع عن الأكل والشرب.
ولذلك فتفسيرُ الحَصور في الآية المباركة بالمُمتنِع عن الزواج من النساء مخالفٌ لظاهر الآية والتي هي واردة في سياق المدح لنبيِّ الله يحيى (ع)
المعنى المستظهَر لكلمة الحصور:
وعليه فالظاهرُ أنَّ المراد من الحَصور في الآية هو الزاهد المتعفِّف عن الشهوات، فالحَصور من الحصْر بمعنى الحبس، وصيغةُ فَعول تأتي بمعنى اسم الفاعل، فيكون وصفُ يحيى (ع) بالحَصور معناه المُحتبِس والحابس نفسَه عن الشهوات، وهو تعبير آخر عن التعفُّف والزهد، وقد يكون المراد من الحَصور هو المحصور أي المحبوس والمعصوم عن مقارفة الذنوب، فهو وإن كان قادراً تكويناً على مقارفتها إلا أنَّ تسديد الله تعالى وتأييده -بمنحه البصيرة- يمنعانه عن مقارفتها، فهو ممنوع عن الذنوب ولكن من غير أن يكون ذلك منافياً للاختيار.
فهذا المعنى بكلا احتماليه هو المناسب لمساق الآية المتصدِّية لمدح يحيى (ع) وهو مناسبٌ كذلك للمدلول اللُّغوي لكلمة الحًصور
رواية العياشي والتعليق عليها:
وأمَّا ما رواه العياشي في تفسيره عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): "﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ والحَصور الذي يأبى النساء (الذي لا يأتي النساء) ونبيَّا من الصالحين"(9).
فهي رواية مرسلة، لا يصحُّ بها صرفُ الآية المباركة عن ظاهرها، على أنَّه يُمكن حملُها على أنَّه كان يأبى الاشتغال بالنساء أو ما يقرب من هذا المعنى لا أنَّه كان عازفاً عمَّا ندبَ اللهُ تعالى إليه من التزويج. ولعلَّ المراد من الرواية أنَّه عاش عمره الشريف دون زواج لاقتضاء ظرفِه الخاص الصبر على ذلك، فيكون مستحقَّاً للمدح لأنَّه صبر على ما تهشُّ إليه نفسُه رعايةً للظرف الخاصِّ الذي اقتضى الامتناع عن الارتباط بزوجة، فيكون معنى الحَصور هو المُمتنع عن مرغوباته والحابس نفسه عنها رعايةً لمقتضيات ظرفِه الذي نشأ عنه رجحان العزوف عن الاشتغال بما تقتضيه رغبات النفس وذلك من أعلى مراتب التعفُّف والذي هو معنىً آخر لكلمة الحَصور في الاستعمال اللُّغوي.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
14 / شهر رمضان / 1443ه
16 / ابريل / 2022م
1- سورة آل عمران / 39.
2- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز -ابن عطية الأندلسي- ج1 / ص430، جامع البيان -الطبري- ج3 / ص347.
3- المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص373، ج4 / ص245، جامع البيان -الطبري- ج3 / ص347.
4- المعجم الأوسط -الطبراني- ج6 / ص333.
5- ميزان الاعتدال -الذهبي- ج1 / ص462، لسان الميزان -ابن حجر- ج2 / ص177.
6- جامع البيان -الطبري- ج3 / ص348.
7- تفسير القرآن العظيم -ابن أبي حاتم- ج2 / ص643.
8- تاج العروس -الزبيدي- ج2 / ص485، النهاية -ابن الأثير- ج5 / ص249.
9- تفسير العياشي -محمد مسعود العياشي- ج1 / ص172، البرهان -السيد هاشم البحراني- ج1 / ص623.