حولَ قولِه تعالى: ﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ..﴾

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد للهِ ربِّ العالمين، والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولَا وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَه شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، ولَمْ يَكُنْ لَه وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وكَبِّرْه تَكْبِيراً، والْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي يَصِفُ ولَا يُوصَفُ، ويَعْلَمُ ولَا يُعْلَمُ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ ومَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

 

عباد الله أُوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعْلَمُوا أَنَّه مَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَه مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ، ونُوراً مِنَ الظُّلَمِ ويُخَلِّدْه فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُه، ويُنْزِلْه مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَه.

 

يقولُ اللهُ تعالى في مُحكمِ كتابه المجيد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(1).

 

الآيات التي عرَّفت بأصحاب الجنَّة:

حين نستعرضُ الآياتِ التي تصدَّت لبيان مَن هم أصحابُ الجنَّة نجدُها أربعَ آياتٍ، وهذه التي تلوناها هي الخامسة، واللافتُ أنَّ الآياتِ الأربع متَّحدةُ المضمون أو هي متقاربةٌ في المضمون، فكلٌ منها قد عرَّف أصحابَ الجنَّةِ بوصفين، الأولِ هو الإيمانُ والثاني هو عملُ الصالحات، فالمؤمنونَ العاملونَ للصالحات هم أصحابُ الجنَّة في الآياتِ الأربع.

 

فالآيةُ الأولى وردت في سورةِ البقرة، وهي قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(2).

 

والآيةُ الثانية وردت في سورةِ الأعراف، وهي قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(3).

 

والآيةُ الثالثةُ وردت في سورةِ الأحقاف، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(4).

 

فهذه الآيةُ عرَّفت هي كذلك أصحابَ الجنَّة بأنَّهم المؤمنون العاملون للصالحات، فالوصفُ الأول وهو الإيمان يُستفاد من قولِه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ والوصفُ الثاني هو الاستقامة أي الاستقامة على مقتضياتِ الإيمان وهو عملُ الصالحات، إذ أنَّ مقتضى الإيمان هو الاِلتزامُ بعملِ الصالحات، نعم تُضيفُ هذه الآية إلى الآيتين السابقتين بياناً هو مرادٌ قطعاً من الآيتين وهو أنَّ المُوجبَ لدخولِ الجنَّة ليس هو عملَ الصالحات ولو لمرَّةٍ أو لوقتٍ يسيرٍ وإنَّما هو الاستدامةُ على عملِ الصالحات. المستفاد من قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.

 

وأمَّا الآيةُ الرابعةُ فهي من سورة يونُس، وهي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ / لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(5) فاللذين أحسنوا هم الفاعلون للحسَنِ من الأعمال أي العاملونَ للصالحات، هؤلاءِ يُجازَون بالحُسنى وهي المثوبةُ على صالحِ أعمالِهم بل يزيدُهم اللهُ تعالى من فضلِه فيمنحُهم من المثوبةِ أضعافَ ما يستحقُّونَ وأولئك أصحابُ الجنَّة.

 

إذن فالآياتُ الأربعُ متَّحدةُ المضمونِ أو هي متقاربةٌ، وأمَّا الآيةُ الخامسة فقد تصدَّت لبيانِ أمرٍ لم تتصدَّ الآياتُ الأربع لبيانِه والتنويهِ عليه وإنْ كانت متضمِّنةً له وهو الإخبات، فأصحابُ الجنَّةِ بحسب الآية من سورة هود هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربِّهم.

 

مدلول الإخبات ومقتضياته:

والإخباتُ في اللَّغة من الخبْت وهو ما اطمئنَّ من الأرض واتَّسع أي هو وصفٌ للأرض المستويةِ المُنبسطة والواسعة، وذلك في مقابل الأرض المُرتفِعة أو المتعرِّجة والتي يتخلَّلُها تلالٌ وصخورٌ وأحجار، ويُقالُ للرجل أخبتَ إذا قصدَ الخبْتَ من الأرض فافترشها أو سار عليها، وطبيعةُ الأرضِ المستويةِ والمُنبسطة هي أنَّها منخفضةٌ في مقابلِ الجبال والأرضِ ذاتِ التِّلال والصخور، فإذا عدلَ الرجلُ عن المشي على الجبال أو الأرضِ ذاتِ التِّلال والآكام وقصدَ الأرضَ المُنبسطة وصفوه بأنَّه أخبت أي انخفضَ في مشيه، ثم استُعير هذا اللفظُ ليُستعمل في المتواضع، فالمُخبِتُ هو المتواضع، إذ أنَّ المناسبَ للتواضعِ هو الانخفاض، ولذلك فسَّر بعضُهم قولَه تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾(6) بالمتواضعين.

 

وكذلك فإنَّ من طبيعةِ الأرضِ المستويةِ والمُنبسِطة هو استقرارُ كلِّ شيءٍ وقعَ عليها أو فيها، فإذا نزل عليها المطرُ فإنَّه لا ينصرفُ عنها يميناً وشمالاً بل يسقرُّ عليها أو في باطنِها، وإذا أُلقي فيها حجرٌ فإنَّه يستقرُّ في موضعِه، وإذا افترشها الإنسانُ واضَّجع عليها استقرَّت جميعُ جوارحِه عليها، وإذا مشى عليها الماشي فإنَّه يطمئنُ في مشيه فلا يضطربُ ولا يتزلزلُ بل تكونُ خطواتُه عليها ثابتةً وواثقة. ولهذا استُعيرَ لفظُ الإخبات لإفادةِ معنى الاطمئنانِ والاستقرارِ والثبات.

 

 ومن هنا ذكر المفسِّرون أو بعضُهم أنَّ معنى قولِه تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾(7) أي فتطمئنُ وتستقرُّ وتثبتُ على الحقِّ.

 

وكذلك فإنَّ طبيعةَ الأرضِ المنبسطةِ والمستوية أنَّها لا تكونُ صخريَّةً أو قاسيةً، فحرثُها سهلٌ، وهي تلينُ -لو تصلَّبت- بهطولِ المطرِ عليها، ولذلك استُعيرَ لفظُ الخبْت والذي هو وصفٌ للأرض المنبسطة التي تلينُ بالحرثِ والمطر استُعيرَ هذا اللفظُ لوصف القلبِ الخاشع والليِّن والذي يسهلُ قيادُه، ومن ذلك ما ورد في الدعاء المأثور: "واجْعَلْني لك مُخْبِتاً" أَي خاشعاً مطيعاً، وفسَّر بعضُهم قولَه تعالى: ﴿فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ أي تلينُ فتخشعُ فتنقادُ لربِّها كما تلينُ الأرضُ بالمطرِ وتخشعُ فتنشقُّ فيخرجُ من ثنياها الزرعُ فتُصبحُ وكأنَّها قد انقادت لإرادةِ صاحبِها، فهو قد أراد منها أنْ تُنبتَ الزرعَ فأنبتته.

 

معاني الإخبات من شؤون القلب:

وبذلك يتَّضحُ أنَّ الإخباتَ في كلام العرب يُستعملُ بمعنى الخشوعِ، والخضوعِ، والتواضعِ، واللِّينِ، والاطمئنانِ، والثباتِ، والتسليمِ، والانقيادِ، والإنابةِ والتضرُّع. وهذه المعاني رغم تفاوتِها من حيثُ المفهوم ولكنَّها متلازمةٌ في الوجود غالباً، فجميعُ هذه الصفاتِ من شؤون القلب، فالتواضعُ الحقيقيُّ مثلاً ينشأُ عن شعورٍ بالضعةِ والصغارِ، وما يبدو على الجوارح والسلوك من آثار الشعور بالصَغار ليس هو حقيقةَ التواضع وإنَّما هو مظهرٌ من مظاهرِه، ولذلك لو تظاهرَ الإنسانُ بالتذلُّل والصغار ولكنَّه كان ينطوي على قلبِ جبارٍ مستكبرٍ فإنَّه لا يكون متواضعاً.

 

فالتواضعُ إذن من شؤون القلب وحقيقتُه الشعور بالضعة أمامَ عظمة الله تعالى، وهذا الشعور هو الذي يقودُ الإنسان للخضوع، ثم إنَّ الشعور بالضعة ينشأ عن الشعور بالحاجة والفقر كما ينشأ عن الخشية والخوف، فإذا شعر الإنسانُ بالفقر لله تعالى تصاغر له، وإذا خاف من سطوته وأدرك أنَّه غير مُطيق لسخطِه وعذابه تذلَّل وخضع وتخشَّع ليأمن من غضبه، فالخضوعُ والخشوعُ والتذللُ والخوفُ والخشيةُ معان تدور في فلكِ التواضع.

 

ثم إنَّ القلبَ الخاشع المسكونَ بالخوفِ والخشيةِ لا يكون قاسياً بل هو ليِّنٌ وجِلٌ ينفعلُ بالموعظة ويرهبُ ربَّه كلَّما ذكره يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾(8) ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾(9) فالخشيةُ والتي هي من آثار التواضع ينشأ عنها لينُ القلب أو هي ملازمة له.

 

وبذلك يتَّضحُ أنَّ عنوان الإخبات عنوانٌ جامعٌ في الوجود لمعاني التواضعِ والخضوعِ والخشوعِ والخوفِ والخشيةِ والرقَّة ولينِ القلب، وكذلك هو يستبطنُ معنى التضرُّع والإنابة لأنَّ القلبَ المسكونَ بالخوفِ والخشيةِ يتضرَّع ويتذلَّلُ لله تعالى ليأمَنَ من سخطه وسطوته، وذلك في مقابل القلب القاسي فإنَّه لا يجد ما يدفعُه للتضرَّع، ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾(10) وكذلك فإنَّ القلب الذي يشعرُ بالفقر والحاجة لربِّه يكون دائم الرجوع والأوبةِ والإنابةِ لربِّه.

 

ومن هذا البيان نفهمُ أنَّ المراد ظاهراً من قولِه تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ هو الإشارةُ إلى مجموع المعاني التي ذكرناها، فالمُخبِتون هم المتواضعونَ لله، الخاضعونَ لأوامره، الذين يخشونَ سطوتَه ويخافونَ عذابَه، وتقشعرُّ قلوبُهم لذكره، فلا يتجاوزون حدودَه وزواجرَه، ويشعرون بالفقرِ والحاجة إليه فيتضرَّعونَ له.

 

الإخبات يتضمَّن معنى التسليم والطمأنينة: 

ثم إنَّ الشعورَ بالحاجةِ والفقر ليس إلى رزق الله وحسب، وليس إلى مغفرتِه والأمنِ من عقوبتِه وحسب بل هو شعورٌ بالفقر لعلمِه المطلق وحكمته غير المتناهية وحُسنِ تدبيره للأمور، ولذلك إذا جاءه هدىً من ربِّه سلَّم له وسكَنَ إليه واطمئنَّ بأنَّه الحق، ومن هنا كان الإخبات متضمِّناً لمعنى التسليم والطمأنينة بل هو أجلى مصاديقه وأقربها للمدلول اللغوي، فالقلب المخبت لله تعالى هو المطمئن لِهُداه الواثق بحكمته والراضي بتدبيره والمسلِّم لأمره ونهيه، شأنُه في ذلك شأن الأرض المنبسطة والمطمئنة إذا هطل عليها المطر استقر فيها، وإذا مشى عليها الماشي كانت خطواتُه عليها واثقة وثابتة، وإذا افترشها سكنت عليها كلُّ جوارحه واستقرت فلم تضطرب، إذ ليس فيها ما يستفز جسده ويُقلقُ راحته بل إنَّ استواء أطرافها ولين تربتها يبعث فيه شعوراً بالاطمئنان والاسترخاء.

 

وبذلك يتَّضحُ معنى قوله تعالى: ﴿وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ فهو مضافاً إلى إفادته معنى التواضع والخضوع وما يلزم ذلك من آثار فإنَّه يتضمَّنُ معنى الاطمئنان لله والسكونِ إلى هُداهُ، والرضا بتدبيره والتسليمِ إليه، ولذلك ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال لأصحابه: "قَالَ أتَدْرُونَ مَا التَّسْلِيمُ فَسَكَتْنَا فَقَالَ هُوَ واللَّه الإِخْبَاتُ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ﴾(11).

 

التسليمُ لله مرتبةٌ تتجاوز رتبةَ الإيمان:

فالتسليمُ لله مرتبةٌ تتجاوز رتبةَ الإيمان بالله وعملِ الصالحات، فالإيمانُ ينبغي أن يقودَ المؤمنَ للإخبات والتسليم، فهي رتبة تتلو رتبة أصل الإيمان، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ فالعلم يقودُ للإيمان، والإيمان يقودُ للإخبات والتسليم، بل إنَّ الإيمان لا يكونُ حقيقيَّاً وصادقاً حقَّ الصدق إلا أنْ يكونَ واجداً لرتبةِ الإخبات والتسليم، ولذلك قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(12).

 

أصدقُ تعريفٍ للإيمان الحقيقي:

فالإيمانُ الحقيقيُّ -بمقتضى الآية-لا يكون إلا بالتسليم بما شرَّعه الله تعالى سواءً أدركتَ غايتَه أو خفيتْ عليك، والإيمانُ لا يكونُ إلا مع الاطمئنان بعدلِ الله وحكمته المطلقة وحُسنِ تدبيره، والرضا بقضائه وقدَرِه، ولذلك ورد عن أميرِ المؤمنين (ع) انَّه قال:"أصلُ الإيمانِ حسنُ التسليمِ لأمرِ الله"(13) وقال (ع) فيما رُوي عنه: "الدينُ شجرةٌ أصلُها التسليمُ والرضا"(14) وأُثِرَ عنه أنَّه قال: "أجدرُ الأشياءِ بصدقِ الإيمان الرضا والتسليم"(15).

 

أي إنَّ أصدقَ تعريفٍ بحقيقةِ الإيمان هو الرضا بقضاءِ اللهِ وقدره والتسليمُ لأمره ونهيه وعمومِ تشريعاته. فحين يجدُ الإنسانُ نفسه غيرَ واثقةٍ ولا مقتنعة بصوابيَّةٍ أمرٍ من أوامر الله تعالى لمجرَّد أنَّه لم يُدركْ ملاكَه ومغزاه وغايتَه فإيمانُه حينذاك ليس صادقاً حقَّ الصدق، لأنَّ الإيمانَ الصادقَ حقَّ الصدق لا يتحقَّقُ إلا بالتسليم المطلق لله تعالى، فحين لا يكونُ مُسلِّماً فهو لا يثقُ حقيقةً بحكمة اللهِ المطلقة وعلمِه الكامل بما يُصلِحُ الإنسان، فلو كان يثقُ بحكمة الله تعالى لأيقنَ أنَّ الله لا يأمرُ إلا بما فيه صلاحُه، فإذا عرض له عارضٌ من شكٍّ اتَّهم فهمَه وادراكَه ولقَّن نفسَه بأنَّه غيرُ محيطٍ بتمام أوجهِ المصالح والمفاسد، فقد يُدرك الإنسان وجهاً من وجوهِ المصلحة ويخفى عليه العديدُ من أوجهِ المصالح والمفاسد.

 

منشأ التنكُّر أو الشكُّ هو الشعور بالكبر والاعتداد:

ثم إنَّ الشكَّ والتردُّدَ في صوابيَّة أمرٍ من أوامر الله تعالى فضلاً عن التنكُّر لذلك إنَّما ينشأُ عن شعورٍ بالكبر والاعتدادِ بالنفس في مقابلِ الله تعالى، فهو يرى أنَّ لديه من العلم والإدراك ما يُؤهِّله للحكمِ والتقييم لأوامر اللهِ تعالى وتشريعاته، ولهذا تجدُه كثيرَ التساؤل -مثلا- لماذا الحجاب؟! ولماذا حرَّم الله الربا؟! ولماذا هذه الشدَّة في الأحكام الجزائية؟!

 

إنَّ مبعثَ هذه التساؤلات هو الشعورُ بالكبر والاعتدادِ بالذات، ولو أنَّه تواضعَ لله تعالى وعرف نفسَه وعجزَها عن الاحاطة بتمام أوجه المصالح والمِلاكات لأذعنَ لربِّه وسلَّم له وأيقنَ أنَّه الأعلمُ بعباده وما يُصلُحهم، وهذا هو الإخباتُ الذي لا يُجدي دون تمثُّلِه الإيمانُ وعملُ الصالحات، فأصحابُ الجنَّة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربِّهم أي تواضعوا له وأذعنوا صادقين لأمرِه ونهيه وسلَّموا له تسليما، والإذعان والتسليم لا يستقرَّان في قلبٍ قد استوطنَه الكبر والاعتداد بالذات، فإذا أراد المؤمنُ أنْ يجدَ لكل سؤالٍ جواباً فليتواضع لله وليلقِّن نفسه الإقرار بحكمةِ الله البالغة وبأنَّه الأعلم بما يُصلحُ العباد وبأنَّه الأرأفُ بهم، حينذاك لن يزلزلَ إيمانَه مِن شيء، فكلُّ تساؤلٍ يطرأُ على قلبِه فإما أنْ يجدَ له جواباً أو يتَّهمَ فهمه ويعترفَ بأنَّه مهما بلغ من العلم والفطنةِ والبصيرةِ فإنَّه يظلُّ قاصراً في مقابل ربِّه، فقد كان يجهلُ أشياءَ أو كان الذين قبله يجهلونَها ثم تفطَّن لها وأدركَ مغزاها وغايتها، فلماذا لا يكونُ هذا الذي لم يجد له جواباً هو من القضايا التي لا زال يجهلُها، إنَّ عدم الإذعان بأنَّ ثمة ما يجهلُه يعني التوهُّم بأنه قد أحاط بكلِّ شيءٍ علما، ولا يجسرُ عاقلٌ يحترم نفسه أن يدَّعيَ الإحاطةَ بكلِّ شيء، ولكنَّ المتكبِّر يعيشُ هذا الوهم وإنْ كان لا يبوح به إلا أنَّه يتعاطى مع شرعِ اللهِ الثابتِ عن اللهِ على أساس ذلك، فهو يرى أنَّ ما أدركَ صوابيتَه مِن شرعِ الله فهو صوابٌ وما لم يدركْه أو كان غيرَ مناسبٍ لرأيه وذوقه واستحسانه فهو خطأ، ولذلك فهو أجلى مصداقٍ لمَن نفى القرآنُ الإيمان عنهم بقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(16).

 

نعم هذا لا يعني أنَّ على المؤمن أنْ لا يتساءلَ، وأنْ لا يبحثَ عن مِلاكاتِ الأحكامِ ولكنَّه يسألُ مُسترشِدا فإنْ وجدَ جواباً وإلا سلَّمَ لأمرِ الله تعالى وأيقنَ أنَّه لم يحكمْ إلا بما هو حقٌّ وعائدٌ بالنفعِ على عبادِه وإنْ خفيَ علينا ملاكُه

 

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(17).

 

 والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

13 من جمادى الثاني 1444هـ - الموافق 6 يناير 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

--------------------------------

1- سورة هود / 23.

2- سورة البقرة / 82.

3- سورة الأعراف / 42.

4- سورة الأحقاف / 13-14.

5- سورة يونس / 25-26.

6- سورة الحج / 34.

7- سورة الحج / 54.

8- سورة الأنفال / 2.

9- سورة الزمر / 23.

10- سورة الأنعام / 43. 

11- الكافي -الكليني- ج1 / ص391.

12- سورة النساء / 65. 

13- ميزان الحكمة -الريشهري -ج1 / ص191 / عن كتاب غرر الحكم

14- عيون الحكم والمواعظ -الليثي الواسطي- ص46.

15- ميزان الحكمة -الريشهري -ج2 / ص1093 / عن كتاب غرر الحكم

16- سورة النساء / 65.

17- سورة العصر / 1-3.