معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى الخلة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1).

 

الجواب:

الآيةُ المباركةُ بصدد الحثِّ على الإنفاق في سبيل الله تعالى، والتحذير من فوات الفرصةِ المُتاحة في هذه الدنيا، والتذكير بأنَّ الإنسان في اليوم الآخر لا ينفعُه مِن شيءٍ سوى ما كان قد فعله من الصالحات في الدنيا، فليس في الآخرة ما يُستعاضُ به للنجاة، وليس فيها مَن يُستعانُ به لتحصيل النجاة، ولا تُقبل فيها شفاعةٌ إلا شفاعة مَن يأذن اللهُ لهم بالشفاعة كما قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾(2) ولن يحظى بها إلا من ارتضاه الله كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾(3).

 

معنى قوله تعالى: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾:

فقوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ معناه من قبل أنْ يأتي يوم القيامة حيث لا بيع فيه، والمقصود من البيع -ظاهراً- هو مُطلق المعاوضات التي يستعيضُ فيها الإنسان عن شيءٍ يملكه بشيءٍ آخر يرغب فيه، فيستعيضُ مثلاً بماله لتحصيل الجنَّة أو لتحصيل النجاة، كما هو الشأن في الدنيا، فإنَّ الإنسان يستعيضُ عن ماله بمسكنٍ يأوي إليه أو يبذل مالَه مقابل الخلاص من عقوبة جنايةٍ ارتكبها، هذا في الدنيا وأمَّا في الآخرة فإنَّ الإنسان لا يملك من شيءٍ يُعاوِضُ به، فالملك يومئذٍ لله وحده كما قال تعالى:﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(4) وقال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ﴾(5) وقال جلَّ وعلا: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾(6).

 

وقد يكون المراد من نفي البيع في الآية هو الكناية عن عدم وجود ما يفتدي به الإنسان نفسه أو عدم وجود ما يصلح لأنْ يفتدي به نفسه، فحتى لو كان يملك مالاً فإنَّه لا يكونُ صالحاً في ذلك العالم لأنْ يكون فداءً وعوضاً كما هو الشأن في الدنيا، ولعلَّ هذا المعنى هو المناسب لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾(7) أي لا يُقبل منها فداء.

 

معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾:

وأمَّا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا خُلَّةٌ﴾ فهو أنَّه لا تنفع يوم القيامة صداقة ولا مودَّة، فالخُلَّة بحسب الاستعمال اللغوي تُطلق على الصداقة الشديدة الخصوصيَّة، وجمعها خلال كجُلَّة وجِلال، وقيل إنَّ خلال مصدر من خاللتُ، والخِلال، والمُخالَّة المُصادَقة؛ وقد خالَّ الرجلَ والمرأَةَ مُخالَّة وخلالاً، ويقال للصديق الذي أخلص في المحبَّة وأصفى في المودَّة إنَّه خليل كما في قوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾(9) والجمع أخلَّاء كما في قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾(8) وقد يُجمع على خُلَّان، والأُنثى خَلِيلة والجمع خَلِيلات. 

 

ومنشأ إطلاق الخليل على الصديق المحب هو أنَّ محبَّته تخلَّلت القلب فصارت خِلالَه أَي في باطنه، وقيل إنَّ منشأ ذلك هو أنَّ كلَّ واحد منهما يَسُدُّ خَلَل صاحبه في المودّة والحاجة إِليه، وقيل إنَّ منشأ ذلك هو أنَّه أَحبه محبةً تامَّة لا خَلَل فيها أي لا فراغ في قلبه يتَّسعُ لمحبة أحدٍ آخر، وسمِّي إبراهيم خليلاً كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾(10) لأَن خُلَّتَه كانت مقصورة على حب الله تعالى، فليس فيها لغيره مُتَّسَع ولا شَرِكة من مَحابِّ الدنيا والآخرة(11) فمعنى اتخاذ الله له خليلاً هو أنَّه اصطفاه لأنَّه وجد قلبه قد امتلئ بحبِّ الله تعالى فليس فيه متسع لغيره أو أنَّه اصطفاه فجعل قلبه ممتلئاً بحبِّه فليس فيه لغيره متَّسع.

 

الخلَّة غير المبتنية على التقوى لن تكون في الآخرة مجدية: 

وعلى أيِّ تقدير فمفاد قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ﴾ هو أنَّ الصداقات والعلائق لن تكون نافعة يوم القيامة كما هي كذلك في الدنيا، فالخليل والصديق مشغول بنفسه عن أقرب أقربائه كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ / وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ / وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ / لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾(12) على أنَّ الأخلاء سيكونون يومئذٍ أعداء، لأنَّ كلاً منهم يرى أنَّه ضحية تضليل خليله لذلك فهم يتمنَّون لولم تكن بينهم خلَّة كما قال تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا / لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾(13) وقال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ نعم استثنت الآية المباركة المتقين، ومقتضى ذلك أنَّ الصداقة والخلَّة المبتنية على التقوى تنفعُ الأخلاء يومئذٍ فيشفع الخليلُ التقي لخليله، ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث النبويِّ الشريف:"إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحامُ، وقلت الأنساب، وذهبت الأخوَّة إلا الأخوَّة في الله، وذلك قوله: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾(14).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

23 / شهر رمضان / 1444ه

14 / ابريل / 2023م

---------------------------

1- سورة البقرة / 254.

2- سورة طه / 109.

3- سورة الأنبياء / 28.

4- سورة غافر / 16

5- سورة الحج / 56.

6- سورة الفرقان / 26.

7- سورة البقرة / 123.

8- سورة الزخرف / 67.

9- سورة الفرقان / 28.

10- سورة النساء / 125.

11- لسان العرب ج11 / ص219

12- سورة عبس / 34-37.

13- سورة الفرقان / 28-29.

14- الدر المنثور -السيوطي- ج6 / ص21.