شبهاتٌ مُثارة حول سورةِ الفيل -2

 

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، أَنْتَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ الخَلاقُ المُعِينُ، أَمْرُكَ غالِبٌ وَعِلْمُكَ نافِذٌ، وَكَيْدُكَ غَرِيبٌ، وَوَعْدُكَ صادِقٌ، وَقَوْلُكَ حَقُّ، وَحُكْمُكَ عَدْلٌ، وَكَلامُكَ هُدىً، وَوَحْيُكَ نُورٌ، وَرَحْمَتُكَ وَاسِعَةٌ وَعَفْوُكَ عَظِيمٌ وَفَضٌلُكَ كَثِيرٌ وَعَطاؤُكَ جَزِيلٌ، وَحَبْلُكَ مَتِينٌ، وإِمْكانُكَ عَتِيدٌ، وَجارُكَ عَزِيزٌ، وَبَأْسُكَ شَدِيدٌ وَمَكْرُكَ مَكِيدٌ، أَنْتَ كَما أَثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ وَفَوْقَ ما يَقُولُ القائِلُون. وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأشهد أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

 

عبادَ الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أنَّ مَن أحسنَ إلى مَن أساء إليه فقد أخذَ بجوامعِ الفضل، وأنَّ أفضل الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرةِ الأتقياء، وإذا اتقيت المحرَّمات، وتورَّعتَ عن الشبهات، وأدَّيتَ المفروضات، وتنفَّلتَ بالنوافل، فقد أكملتَ في الدينِ الفضائل.

 

أمَّا بعدُ: فيقولُ اللهُ تعالى في مُحكمِ كتابِه المجيد: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ / أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ / وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ / تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ / فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾(1).

 

كنَّا قد استعرضنا شبهتينِ من شبهاتٍ تُثارُ حول واقعةِ أصحابِ الفيل وأجبنا عنهما، ونتحدَّثُ في المقام إنْ شاء الله تعالى حول شبهتين أُخريين:

 

لماذا لم يُهلكِ اللهُ جيش الحَجَّاج كما أهلكَ أصحابَ الفيل:

الشبهة الأولى: إنَّه إذا صحَّ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا انتصر للكعبةِ الشريفة ومنعَ من هدمِها وهتكِ حرمتِها فأرسل على جيش أبرهةَ الحبشي أسرابَ طيورٍ تحملُ حجارةً من سجيلٍ فجعلتْهم كعصفٍ مأكول، فلماذا لم يفعلْ ذلك حينما حاصرَ جيشُ يزيدَ مكةَ الشريفة وقذفَها بالمنجنيق؟ فلماذا لم ينتصرِ اللهُ تعالى للكعبةِ فيمنعَ جيشَ يزيدَ من هدمِها؟ ولماذا لم يفعلْ ذلك حينما حاصرَ الحجَّاجُ الثقفيُّ مكةَ ورجمَ الكعبةَ بالمنجنيق؟ ألا يوجبُ ذلك التشكيكَ في صحَّة ما يروى حول واقعةِ أصحاب الفيل؟ إذ لو صحَّت لكان مقتضى ذلك أنْ يفعلِ اللهُ تعالى بجيش يزيدَ وجيشِ الحجَّاجِ ما فعله بأصحاب الفيل.

 

الفرق بين الواقعتين يمنع من قياس إحداهما بالأخرى:

والجواب: إنَّه ورغمَ شناعةِ ما فعله جيشُ يزيدَ وما فعلَه الجيشُ الأُمويُّ بقيادة الحجَّاج فرغم شناعةِ وقبحِ ما وقع منهم إلا أنَّه لا يصحُّ قياسُ ذلك على حادثةِ أصحابِ الفيل، فإنَّ جيشَ يزيدَ وجيشَ الحجَّاجِ لم يكن من قصدِهما هدمُ الكعبة وتدميرُها ومنعُ الناس من الحجِّ إليها بل قصدا مِن حصارِ مكَّة الشريفةِ وضربِها بالمنجنيقِ الهزيمةَ لخصمِهما وبسطَ نفوذِهما على مكَّة، وأمَّا جيشُ الحبشةِ فكان يقصدُ -محضاً- تدميرَ الكعبةِ الشريفةِ واجتثاثَها ومنعَ الناس من الحجِّ إليها، وهذا السعيُ لم يسبقْ لجيشٍ قبل جيشِ الحبشة أنْ رامَه منذُ أنْ أقام إبراهيمُ (ع) قواعدَ البيت، ولم يتفقْ وقوعُ ذلك لجيشٍ بعده إلى يومِنا هذا، فقياسُ ما فعلَه جيشُ يزيدَ وما فعلَه الحجَّاجُ بما سعى إليه جيشُ الحبشة قياسٌ مع الفارق البِّيِّن.

 

فجيشُ يزيدَ وجيش الحجَّاجِ قصدا بما فعلا هزيمةَ ابنِ الزبير على أنْ يبقى البيتُ الحرامُ موضعاً لحجِّ الناس لا يُمنعون من زيارتِه وتقديسِه والطوافِ حولَه والاعتكافِ بفنائه، ولهذا حرص الحجَّاجُ بعد القضاء على ابنِ الزبير حرصَ على إعادة بناءِ الكعبة وتشييدِِ المسجدِ الحرام والإذنِ للناس بزيارته والطوافِ حول البيت وإقامةِ الصلاة بفنائه، فهو وإنْ كان قد فعل ذلك نفاقاً -دون ريب- ومداراةً للناس ولكنَّه يكشفُ عن أنَّه لم يكن يقصدُ بما فعلَه منعَ الناسِ إلى الأبد من الحجِّ الى بيت الله الحرام، وعلى خلاف ذلك ما كان يسعى إليه أبرهةُ الحبشي، فقد كان يسعى بما سيَّره من جيشٍ جرَّار إلى تدميرِ البيتِ الحرام مُعلناً -دون مواربة- أنَّ قصدَه من ذلك الإنهاءُ لوجودِه إلى الأبد، وصرفُ الناسِ عن تقديسِه وتعظيمِه والحجِّ إليه والطوافِ حوله، فقد ورد أنَّه كان يُقسِمُ بنصرانيتِه ليهدمنَّ البيتَ الحرامَ حتى لا يحجُّه حاجٌ أبداً(2)، فيكفي لهذا الفارقِ الجوهري بين الواقعتين للمنعِ من قياسِ إحداهما على الأخرى. فقد يكون المنشأ لإيقاع العذابِ على جيش أبرهة هو أنَّه لو أتيحَ له التحقيقُ لما سعى إليه لكان ذلك مفضياً إلى إنهاء الوجود المقدَّس للبيت الحرام إلى الأبد أو إلى أمدٍ طويل، وهذا المحذورُ غيرُ متوقَّعِ الحدوث من مثل ما فعله جيشُ يزيدَ وجيشُ الحجَّاج حيث لم يكن من قصدهما الإنهاءُ لوجود البيت الحرام ولم يكن ذلك متاحاً لهما بعد قيام الإسلام. لذلك فقياس إحدى الواقعتين على الأخرى قياس مع الفارق البيِّن. هذا أولاً

 

واقعة أصحاب الفيل كانت إرهاصاً للمبعث النبوي:

وثانياً: إنَّ من المحتمل أنَّ ما فعله اللهُ تعالى بأصحابِ الفيل وما أظهرَه من عظيمِ قدرتِه كانت غايتُه الإرهاصَ والتمهيدَ لبعثةِ النبيِّ الكريم (ص) وتهيئةِ الأجواء للقبول بنبوَّته وأنَّ الله تعالى سوف ينتصرُ له كما انتصرَ لبيته الحرام، فلعلَّ هذا الحدثَ الذي يستعيدُ به الناسُ الإيمانَ بالغيب وتاريخ الرسالات واقعٌ في سياق سلسلة الإرهاصات التي مهَّد اللهُ تعالى بها لبعثة النبيِّ (ص) كالعديدِ من الكرامات التي ظهرتْ أثناءَ ولادة النبيِّ (ص) وأثناءَ نشأته وإلى أنْ بعثه الله تعالى، فتكونُ واقعةُ أصحابِ الفيل ضمنَ البشائرِ والإرهاصاتِ التي مهَّد اللهُ بها للمبعثِ النبويِّ الشريف، وعليه فلا يكونُ ما وقعَ لأصحاب الفيل كاشفاً عن أنَّ الله تعالى قد قضتْ إرادتُه بأنَّ كلَّ من تعرَّض للبيت الحرام بسوء فإنَّه سوف يُعاجلُه بالنقمة كما فعل بأصحاب الفيل. فإنَّ ما وقع لأصحابِ الفيل كان إرهاصاً وتمهيداً للمبعثِ النبويِّ الشريفِ ولهذا لا يصحُّ قياسُ ما وقعَ قبل المبعث النبوي بما يقعُ بعده، ويكفي هذا الاحتمال لانتفاء صحَّة قياس إحدى الواقعتين على الأخرى.

 

الواقعةُ لا تكشفُ عن تعهُّدِ الله بمعاجلة مَن يتعرَّض للبيت الحرام:

ولذلك نظائرُ كثيرةٌ في تاريخ الرسالات فقارونُ مثلاً حين بغى وطغى وادَّعى أنَّ ما تحت يديه من الكنوز إنَّما صارت إليه بجهدِه وعلمِه لذلك شحَّ بما عنده واستطالَ به على قومه فخسفَ اللهُ به وبدارِه وكنوزِه الأرض ليكون بذلك عبرةً لمن يأتي بعده وليكون ما وقع له دليلاً على أنَّ الله تعالى لا يرضى بمثل ما فعله قارون لكنَّه ليس في الواقعة ما يكشفُ عن أنَّ كلَّ مَن اكتنز الكنوزَ واستطال على قومه سوف يفعلُ الله به ما فعله بقارون أو أنَّه سوف يُعاجله بالنقمة، فما فعله اللهُ تعالى بقارون كان لغرض إقامة الحجَّة للعباد على أنَّه لا يرضى باكتناز الكنوز والبغي على الناس وقد تحققت الحجَّة بذلك على الناس، فلم تكن الغايةُ من إيقاع الخسفِ بقارون هو التعهُّدَ من الله بأنَّه سوف يفعل بكلِّ من اكتنز الكنوز ما فعله بقارون وإنَّما كانت الغايةُ من ذلك هو إقامة الحجَّة على الناس، كذلك ما وقع لأصحاب الفيل لم تكن الغايةُ منه الإفادةَ بأنَّ الله قد تعهَّد بأنَّه سوف يفعلُ بكلِّ من تعرَّض للبيت الحرام بسوء ما فعله بأصحاب الفيل بل كانت الغايةُ من ذلك هو إقامة الحجَّة على الناس والتنبيه لهم على أنَّ الله تعالى بالمرصاد، وأنَّه لا يُمكن التنبؤ بما سيفعلُه بمن تمرَّد على إرادته أو قصد البيت الحرام بسوء. وكذلك -وهو الأهم- كانت الغايةُ ممَّا فعله بأصحاب الفيل التمهيدَ إلى أنَّ ثمة فصلاً جديداً يُوشك أنْ يبدأ. وهو المبعث النبويُّ الشريف.

 

دعوى أنَّ ما أصاب جيشَ أبرهة هو الطاعون:

والشبهةُ الأخيرة الذي أودُّ عرضَها في المقام هي ما زعمَه بعضُ المفسِّرينَ المتأخرينَ من أنَّ الذي أصاب جيشَ الحبشة ومنعَه من هدمِ الكعبة ليس هو ما يُقال من إهلاكهم بما أرسلَه الله عليهم من طيرٍ أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجِّيل بل إنَّ الذي أصاب جيشَ أبرهة ومنعَه من هدم الكعبة هو أنَّه ابتُلي قبل وصولِه للكعبة بداء الحُصبة والجدي وهو ما تُعبِّر عنه العرب بوباء الطاعون، فالمقصودُ -بحسب ما زعِمه- من طيور الأبابيل هو البعوضُ والذبابُ جاءت أسراباً تحملُ في أرجلِها وخراطيمها فيروساتٍ وجراثيمَ ووقعتْ على جيشِ أبرهة فأصابته بوباء الجدري والحصبة، وحيثُ لم يكونوا يملكون الأدوية لمعالجة هذا الوباء لذلك أدَّى هذا الوباء إلى هلاكهم، واستدلَّ لدعواه بأنَّ طاعون الجدري والحُصبة كان قد أصابَ جزيرةَ العربِ في تلك الحقبة.

 

الدعوى منافيةٌ للواضح من مفادِ السورة:

والجوابُ هو أنَّ هذا المفسِّر كان بصدد التفسيرِ لمفاد الآيات من سورةِ الفيل فهو -بحسب الفرض- يُؤمنُ بالقرآن وبصدقِ ما جاءَ به، وأنَّه -أي هذا المفسِّر- كان في مقام التفسير لمفادِ الآيات، ولذلك يتعيَّنُ عليه اعتمادُ ما تقتضيه الوسيلةُ العقلائية لفهم النصِّوص، وهي الظهوراتُ اللُّغويَّة والعرفيَّة المستنِدة إلى مداليل الألفاظِ والتراكيبِ وسياقاتِها والقرائنِ المكتنفةِ بها.

 

ومجموعُ ذلك يقتضي خلافَ ما ذكره، فالآياتُ من سورة الفيل كانت بصدد التذكير بواقعةٍ استثنائية امتنَّ اللهُ تعالى بها على عربِ الجزيرة وأهلك فيها عدوَّاً لم يكن لهم طاقةٌ على مواجهته، أهلَكه بطريقةٍ غير معهودةٍ ولا متعارفة، ولهذا صِيغ صدرُ السورة بلسانِ الاستفهام التعجُّبي تعبيراً عن استثنائية الواقعة وأنَّها من سنخ الوقائع غير المعهودةِ وغيرِ الجاريةِ وفقَ السُننِ الطبيعيَّة ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ / أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ فلو كان هلاكُ جيشِ أبرهة بداءِ الجدري والحُصبة كما يذكرُ هذا المفسِّرُ فأيُّ امتيازٍ وخصوصيَّةٍ لهذه الواقعة تقتضي التعجُّبَ والامتنان، فإذا كان هذا الوباء قد أصاب مَن هم في جزيرة العرب في تلك الحقبة كما يذكر هذا المفسِّر -ولم يثبت ذلك- ولكنَّه لو فُرض أنَّه قد أصاب مَن هم في جزيرة العرب فهو بذلك يكون قد أصابَ الجيشَ وعامةَ القاطنينَ في جزيرة العرب، فليس في البينِ ما يقتضي استفهام التعجُّب، وليس في البينِ امتنانٌ ونعمة يصحُّ أنْ يمتنَّ اللهُ بها على العرب ويُذكِّرهم بها بل هي نكالٌ ونقمةٌ على العرب، وإذا كان هذا الوباء قد أصاب أفرادَ الجيش خاصَّة دون غيرهم ممَّن هم في ذات البقعة فذلك هو الإعجاز الذي ندَّعيه ويقتضيه ظهورُ آياتِ السورة، هذا أولاً.

 

داءُ الحصبةِ والجدري لا يُصيِّر المصاب كالعصفِ المأكول:

وثانياً: هو إنَّ داء الحُصبة والجدري لا يكون من أثره الهلاكُ الفوري أو القريب ولا يُؤدِّي إلى تمزُّق أوصالِ المُصاب وصيرورتِه إلى أشلاءٍ متناثرةٍ ومحطَّمةٍ كما تُشيرُ لذلك الأخبار وكما هو مؤدَّى قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾.

 

فالعصفُ المأكولُ هو إمَّا أن يكون الزرعَ والتبنَ وأوراق الشجر الذي مضغته البهائمُ بأضراسِها ثم لفظتْه أو هو ما يتناثرُ من أفواهها حين الأكل أو هو بقايا الأوراق والقصبِ بعد أنْ أكلت منه البهائمُ وحطَّمته بأضراسها وأقدامها أو هو بقايا الزروع التي نخرتْها الديدانُ أو هو ما راثته البهائمُ وداسته بأقدامِها، أو هو قشورُ الحنطةِ التي يكونُ على حبِّ الحنطَّة كهيئة الغلاف أو هو جميع ذلك، وعلى أيِّ تقديرٍ فالآيةُ بصدد تشبيهِ أفراد الجيش الحبشي -بعد ما أصابهم العذابُ- بالزروع المأكولةِ والأوراق المهشَّمةِ والمحطَّمةِ والمتناثرة أو أنَّها كالقشورِ الفارغة بعد أن تمَّ الأكلُ لما في لبِّها، فهي تُشبِّه أجسادَهم بعدما أصابتهم الحجارة وأحرقت مِن حرارتها أجوافََهم بالقشورِ الفارغة أو أنَّها تُشبِّه أصحابَ الفيل بالزروع التي أكلتها الدوابُّ ثم راثتها فيبسَت وتفرَّقت أجزاؤها، فهي بناءً على ذلك تُشبِّه تمزُّقَ أوصالِهم بالزروع المأكولةِ التي راثتها الدوابُّ فيبستْ وتناثرتْ أجزاؤها.

 

ومثلُ هذا المشهدِ الفظيع على اختلاف صورِه لا يكون من فعل وباء الجدري أو الحُصبة، فوباءُ الجدريِّ والحصبة، وكذلك ما يُشبه هذا الوباء من سائر الأوبئة لا يكونُ من فعلِها تمزيقُ الأجساد إلى أشلاءٍ متناثرةٍ، ولا يكونُ من فعلِها اختراقُ الجسدِ وتهشيمُ العظامِ أو ثقبُها.

 

الفيروسات والجراثيمُ لا يقال لها حجارة من سجيل:

وثالثاً: الآية المباركة أفادت أنَّ الله تعالى أرسل على أصحاب الفيل طيراً أبابيل، ومن غيرِ المعهود في كلامِ العرب تسميةُ البعوضِ والذباب بالطيور، فحينَ يُقالُ جاءت أسرابٌ من الطيور فإنَّ العرب لا تفهمُ من مثلِ ذلك أنَّها أسرابٌ من البعوض أو الذباب، وكذلك فإنَّ القرآن أفاد بأنَّها تحملُ حجارةً، فهل تحملُ البعوض والذباب حجارة؟! وهل يصدقُ لفظُ الحجارة في كلام العرب على مثل الفيروساتِ والجراثيم والتي لا تكاد تبين؟!. إنَّ القرآن المجيد قد تحدَّث في موضعٍ آخر أنَّه أرسل على قومِ لوط ذاتَ الحجارة التي رمى بها جيشَ أبرهة ووصفَها بذاتِ الوصف، وأفاد بأنَّها كانت حجارةً من سجِّيل فقال جلَّ وعلا: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيل﴾(3) فهلُ يصحُّ في كلام العرب التعبيرُ عن إصابة الأجساد بالفيروسات أنَّها أُمطرت بحجارةٍ من سجيل؟!! وهل يُقال للجراثيم إنَّها حجارة؟!

 

الاستيحاشُ من المعجزات لا يُبرِّر التعسُّفَ في نفسير الآيات:

إنَّ تفسير القرآن بمثل ما ذكره هذا المفسِّر لا يعدو التعسُّفَ والعبثَ بآياتِ الله، وصرفَ الكلام عمَّا تقتضيه الأوضاعُ والاستعمالاتُ اللَّغويَّة وما يقتضيه الفهمُ العرفي لدى أهل المحاورة والكلام، فالقرآنُ نزلَ بلغةِ العرب فالمتعيَّنُ هو فهمُه وفقاً لما تقتضيه الظهوراتُ العرفيَّة المستنِدة إلى قواعد اللَّغة ومساقاتِها. وأمَّا صرفُ الكلام عمَّا يقتضيه الظهورُ العرفي لمجرَّد الاستيحاش من وقوعِ المعجزات لكونِها على خلافِ ما تقتضيه الأسبابُ الطبيعيَّة المتعارفة فهو لا يُبرِّرُ التعسُّفَ في فهم الآيات، فإنَّ المعجزاتِ من أصولِ الاعتقاد، وعليها قامت النبوَّات، والمصحِّحُ لقبولها هو إمكانُها في نفسِها أولاً والإيمانُ بقدرة اللهِ المطلقةِ على كلِّ شيءٍ ثانياً، فإذا كان اللهُ تعالى على كلِّ شيء قدير، وكانت المعجزةُ في دائرةِ الإمكان التي لا يُحيلُ العقلُ وقوعَها فأيُّ محذورٍ من تصديقِها إذا أخبر اللهُ تعالى عن وقوعِها أو قامت الشواهدُ البيِّنةُ على وقوعها، فالخرقُ لناموسِ الطبيعة ووقوعُ الشيءِ بوسائلَ غيرِ معهودة أمرٌ لا يراهُ العقلُ مستحيلاً، غايتُه أنَّه يكون مستغرَباً لعدم تعارفِ وقوعِه وممتعَ الحصول بالأسباب الطبيعية لكنَّ الذي وضعَ الأسبابَ الطبيعيةَ وهو اللهُ جلَّ وعلا هو مَن استعاض عنها بسببٍ غير طبيعي، فما هو المحذورُ في ذلك إلا أنْ نتخلَّى عن الإيمان بقدرةِ الله تعالى على كلِّ شيء. ويكون حظُنا من الإيمان هو الإيمانُ بالأسباب الماديةِ والحسيَّة وليس ذلك من شأنِ المؤمنِ الذي يُؤمنُ بالغيبِ والشهادة وأنَّه كما أنَّ ثمة أسباباً حسيَّةً لوقوعِ الأشياءِ فإنَّه قد تقتضي إرادةُ اللهِ تعالى إيجادَها بأسبابٍ غيبيَّة.

 

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(4).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

14 من شوال 1444هـ - الموافق 5 مايو 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

-----------------------------------------------

1- سورة الفيل / 1-5.

2- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص443، سيرة ابن إسحاق -محمد بن إسحاق المطلبي- ج1 / ص38، دلائل النبوة -البيهقي- ج1 / ص117.

3- سورة الحجر / 74.

4- سورة الكوثر / 1-3.