آية: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ لا تنفي الحساب

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما هو تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾(1) ألا تنافي الآية ما هو ظاهر القرآن من أنَّ الأنبياء والمرسلين سوف يحاسبون يوم القيامة فكيف بغيرهم

 

الجواب:

ليس في الآية دلالة على نفي الحساب والمساءلة يوم القيامة عن أصحاب اليمين وإنَّما هي بصدد الإخبار عن المصير الذي سينتهي إليه أصحابُ اليمين وهو الفوز بالجنَّة، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ / إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ / فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ / عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾(2).

 

فمفاد الآيات هو أنَّ كلَّ نفسٍ يوم القيامة فهي مرهونة ومحبوسة بما فعلته في الدنيا إلا أصحاب اليمين فإنَّهم قد فكُّوا عن نفوسهم هذا الرهان بما كانوا قد فعلوه من الصالحات في الدنيا تماماً كما يُخلِّص الراهن ماله بأداء ما عليه من الحقِّ للمرتهِن.

 

فالناس يوم القيامة صنفان صنفٌ منهم محبوسون بما كسبوه واجترحوه من سيئ الأعمال، فهم في وِثاق أعمالهم السيئة لا يستطيعون الخلاص من تبعاتها، وهؤلاء هم الذين عبَّرت عنهم الآيات بالمجرمين، فجرائمُهم أفضت إلى صيرورتِهم محبوسين غير قادرين على الخلاص والانفكاك من تبعاتِ الجرائم التي اكتسبوها.

 

والصنفُ الثاني من الناس فكُّوا نفوسهم من الرهن بما فعلوه من الصالحات، لذلك فهم طُلقاء لأدائهم الحق الذي عليهم، وهؤلاء هم أصحاب اليمين والتي أفادت الآياتُ من سورة المدثِّر أنَّهم في جنَّات.

 

فالآيات لم تذكر أنَّ أصحاب اليمين لن يحاسبوا وإنَّما تتحدَّث عن العاقبة التي سينتهون إليها وهي الفوز بالجنات، فالآياتُ تتحدَّث عن مرحلة ما بعد الحساب للصنفين، فتذكر أنَّ الصنف الأول محبوسون بسيئ أعمالهم، والصنفُ الثاني وهم أصحاب اليمين يتخلَّصون من عهدة الرهن بما كسبوه من صالح الأعمال، ويؤكِّد أنَّ الآيات كانت بصدد الحديث عن مرحلة ما بعد الحساب ما ورد عقيب قوله : ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ حيث قال تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ / عَنِ الْمُجْرِمِينَ / مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾(3) فأصحابُ اليمين في جنات والمجرمون في سقر، وهذه قرينة على أنَّ الآية تتحدث عما بعد مرحلة الحساب، إذ لا ريب أنَّ المجرمين يُحاسبون قبل دخولهم سقر.

 

ثم إنَّ المراد ظاهراً من أصحاب اليمين هم الذين يُعطى كلٌّ منهم كتابه بيمينه، فالتعبير عنهم بأصحاب اليمين نشأ عن أنَّهم سيُعطى كلٌّ منهم كتابه بيمينه، وهؤلاء قد نصَّ القرآن على أنَّهم يُحاسبون شأنُهم شأنُ سائر الناس، غايتُه أنَّهم سوف يُحاسبون حساباً يسيرا كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ / فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾(4) فالكتابُ الذي يُعطونه مشتملٌ على ما كانوا قد فعلوه في الدنيا كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا / اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(5) فالكتابُ الذي يُعطاه كلُّ أحدٍ والذي تمَّ التدوينُ فيه لأعماله التي كسبها في الدنيا، فقراءة هذا الكتاب وما اشتمل عليه هو نفسه الحساب الذي سيلقاه كلُّ أحد، فإنْ كان الكتاب مشتملاً على الأعمال الصالحة فسوف يكونُ حسابه ميسورا، وهؤلاء هم أصحاب اليمين الذين نصَّت الآيات على أنَّهم يحاسبون ولكن حسابهم سيكون حساباً يسيرا.

 

 وكذلك فإنَّ قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾(6) ظاهرٌ في أنَّ أصحاب اليمين يُحاسبون وذلك بتسليمِهم للكتاب الذي تمَّ فيه التدوين لأعمالهم والأمر لهم بأنْ يقرأوا ما في كتابهم ليتثبَّتوا أنَّ ما سيلقونه من جزاء لن يكون أقلَّ ممَّا كانوا قد كسبوه، فلن يُظلموا ولن ينقصَ من أجرِ أعمالهم شيئاً وإن كان حقيراً، فإعطاؤهم كتاب الأعمال وأمرهم بقراءته ووعدهم بأنَّهم لن يُظلموا يُعبِّر بوضوح أنَّهم سوف يحاسبون ليجدوا أنْ الجزاء الذي سوف يُقرَّرُ لهم مناسبٌ لما هو مدوَّن من أعمالٍ في كتابهم.

 

وكذلك يدلُّ على أنَّ أصحاب اليمين يُحاسبون قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ / إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ / فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾(7) فقوله ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ معناه ظاهراً إنِّي كنتُ في الدنيا على يقينٍ بأنِّي سوف أحاسب في الآخرة لذلك عملتُ بما يقتضي فوزي وخروجي من الحساب بنجاح.

 

وخلاصة القول: إنَّ أصحاب اليمين سوف يُحاسبون شأنُهم شأنُ سائر الناس، والآياتُ من سورة المدثر لا تنفي مثولَهم للحساب يوم القيامة، فهي إنَّما كانت بصدد الحديث عن المرحلة التي تكون بعد الحساب، فهم بعد هذه المرحلة وبعد مثولِهم للحساب يكونون في جناتٍ وذلك لخروجهم من الحساب بنجاح.

 

فشأنُ هذه الآيات من سورة المدثر شأنُ الآيات من سورة الواقعة التي تحدَّثت عن العاقبة التي سينتهي إليها أصحاب اليمين، وهي الفوز بالجنة كقوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ / فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ / وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ / وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾(8) فمثلُ هذه الآيات لا تنفي الحساب عن أصحاب اليمين وإنَّما هي بصدد بيانِ العاقبة الحسنة التي سيحظون بها في المآل.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

18 / شوال / 1444ه

10 / مايو / 2023م

------------------------

1- سورة المدثر / 39.

2- سورة المدثر / 38-40.

3- سورة المدثر /

4- سورة الانشقاق / 7-8.

5- سورة الاسراء / 14.

6- سورة الاسراء / 71.

7- سورة الحاقة / 19-21.

8- سورة الواقعة / 27-30.