حديثٌ حول عالَمِ البرزخ -1

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ مِنَ الذُّلِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، الحَمْدُ للهِ بِجَمِيِعِ مَحامِدِهِ كُلِّها عَلى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّها، الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا مُضادَّ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلا مُنازِعَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ وَلا شَبِيهَ لَهُ فِي عَظَمَتِهِ، الَّذِي لا تَنْقُصُ خَزائِنُهُ وَلا يَزِيدُهُ كَثرَةُ العَطاءِ إِلاّ جُوداً وَكَرَما إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الوَهَّابُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأشهد أَنَّ مُحَمَّداً(ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

عبادَ الله أُوصيكم ونفسي بتقوى الله، فَإِنَّها تَجمَعُ الخَيرَ ولا خَيرَ غَيرُها، ويُدرَكُ بها مِن الخير ما لا يُدرَكُ بغيرِها مِن خير الدنيا والآخرةِ قال اللَّه عزّ وجلّ: ﴿وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِه الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ﴾(1).

أما بعدُ: فيقولُ الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ / لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(2).

المعنى اللُّغويُّ لكلمة البرزخ:

إنَّ معنى البرزخ بحسب المدلول اللغويِّ هو الحاجزُ والفاصل الذي يفصلُ بين شيئين كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾(3) أي جعل بين الماء العذب والماء المالح الأُجاج حاجزًا يفصلُ بين المائين كما قال تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾(4) فالبرزخُ هو الفاصلُ والحاجز الذي يمنعُ من تداخلِ الشيئين كما قال تعالى في سورة الرحمن: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ / بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾(5) أي لا يدخلُ أحدُهما في الآخر.

استعمال القرآن لكلمة البرزخ فيما بين النشأتين:

هذا هو المدلول اللغويُّ لكلمة البرزخ، وقد استعمل القرآنُ هذه الكلمة للتعبير بها عن الفترةِ الفاصلة بين النشأتين الدنيا والآخرة، فالبرزخ في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ / لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ يعني الحاجز والفاصلة التي تكون بين الدنيا وبين يوم البعث، فقوله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ فيه إشارةٌ إلى أنَّ البرزخ ظرفٌ زمنيٌّ يمكثُ فيه مَن وقع عليه الموت إلى أن تقوم الساعة، ولأنَّ هذا الظرف يتوسَّطُ ما بين النشأتين الدنيا والآخرة لذلك ناسبَ التعبير عنه بالبرزخ والذي هو بحسب المدلول اللغويِّ يعني الحاجز والفاصلة بين الشيئين.

دلالة آية رب ارجعون على الحياة في البرزخ:

نعم التعبيرُ عن الفترة الفاصلة بين الدنيا والآخرة بالبرزخ لا يدلُّ في نفسِه على حياة المُنتقِل من الدنيا إليها كما لا يدلُّ على عدم الحياة لكنَّ قوله تعالى في صدرِ الآية: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ يدلُّ بوضوحٍ على حياةِ مَن ينتقل من الدنيا إلى هذه الفترة الفاصلة المعبَّر عنها بالبرزخ.

فمقتضى طلبِ الرجوع أنَّه قد وقع عليه الموت وانتقل من هذه النشأة، إذ لا معنى لطلب الرجوع إلى الدنيا وهو مازال في الدنيا، فالمناسبُ لو كان بعدُ في عالم الدنيا أنْ يطلب التأخير لا أنْ يطلبَ الرجوع، ولذلك قال اللهُ تعالى يصفُ حال من لم يمُت ولكنَّه كان على وشكِ الموت: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(6) فهو يطلبُ التأخير لأنَّه لم يمُت بعدُ بل كان ذلك منه قبل أنْ يأتيه الموت، أمَّا الذي جاءه الموتُ ووقع عليه وصيَّره إلى عالمٍ آخر فإنَّه يطلبُ الرجوع لأنَّه وجدَ بعد الموت ومفارقة هذه النشأة أنَّه خاسرٌ لتفريطِه، لذلك طلب الرجوع ليتدارَكَ ما كان قد فرَّط فيه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ يعني أنَّه بعد أنْ فارق الدنيا يشعرُ بالندم ويطلبُ الرجوع، فهو إذن يطلبُ ويتكلَّم ويُدرِك ويشعرُ بالحسرةِ والحال أنَّه ميِّت وأنَّ جسمَه قد صار جثَّةً هامدة وربَّما تفسَّخت وتلاشتْ، وذلك ما يُؤكِّد أنَّ الموت لا يقتضي فناءَ الروح بل تظلُّ الروحُ بعد الموت كما هي تُدركُ وتَشعُر. 

وبتعبير آخر: إنَّ هذا الذي جاءه الموت ووقعَ عليه وخرج من عالم الدنيا وكان قد فرَّط وقصَّر يتمنَّى الرجوع إلى الدنيا لتدارُك ما كان قد فرَّط فيه، ويطلبُ ذلك من ربِّه، فهو يتمنَّى، ويطلبُ، ويقولُ، ويتكلَّم، ويعرفُ أنَّ له ربًّا، ويُدرِكُ العالَم الذي انتقل إليه، ويتذكَّر العالَم الذي انتقلَ منه، وكلُّ ذلك من شؤونِ الحياة، فالحيُّ هو مَن يُدركُ ويشعرُ وأمَّا الميِّت فهو فاقدٌ للإدراك والشعور، وحيثُ إنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ للمنتقِل إلى عالَمِ البرزخ إدراكًا وشعورًا فذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّ له حياة ولكنَّها ليست حياةً للأجساد، إذ أنَّ الأجساد قد صارت جثثًا هامدة ثم صارت رميمًا فاقدةً للشعور لذلك فالحياةُ التي تدلُّ عليها هذه الآية هي حياة الأرواح، فالأرواح لا تفنى بالموت وإنَّما تُستوفي وتُقبض، فالموتُ قبضٌ للروح وليس إتلافًا لها كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾(7) فالتي قضى عليها الموتَ يُمسكُها عنده، فالموتُ استيفاءٌ وقبضٌ للأرواح، قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(8) فالتوفِّي هو القبض والتسلُّم وعندها ترجعُ الروح إلى ربِّها كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾(9) وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾(10) فالرجوعُ إلى الله تعالى معناه ومقتضاه أنَّ الروح لا تفنى بالموت، ووصفُها بالراضية معناه أنَّ الروح تظلُّ كما كانت تشعرُ بالرضا، وقد تشعرُ بالبؤس والندم كما هو مؤدَّى قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾.

آيات أخرى تدلُّ على الحياة في البرزخ:

وليست هذه الآية وحدها التي تدلُّ على الحياة في عالم البرزخ، فثمة العديدُ من الآيات تدلُّ على ذلك:

منها: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلوا في سبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(11).

فهذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أحياءٌ وليسوا أمواتًا في حين أنَّه لا يرتابُ أحدٌ في أنَّهم قد ماتوا كما يموتُ الناس وقُبِروا كما يُقبرُ الناس، وقد يُشاهدُ الناسُ أجسادَهم وقد صارت أوصالًا ممزَّقة أو أشلاءً محترقة بل قد يُشاهدونهم وقد صاروا رمادًا تذروه الرياح ورغم ذلك أخبرَ عنهم عالِمُ الغيبِ والشهادة بأنَّهم أحياءٌ وأنَّ لهم خصائصَ الأحياء ينعَمونَ برزق الله تعالى ويفرحونَ بعطاء الله كما يفرحُ الأحياء ويتطلَّعون إلى من خلَّفوهم في الدنيا من بني جنسِهم، فإذا قُتل منهم قتيل أو مات منهم ميِّت استبشروا به وبقدومه، إذن فهم لم يفقدوا خاصِّية الإدراك والقدرة على تحصيل العلم، فلهم ذاكرةٌ تتذكَّرُ مَن كان معهم في الدنيا، ويحصلُ لهم العلم بموت مَن مات وقَتْلِ مَن قُتل من إخوانهم، ويشعرونَ بالبشرى والابتهاج، فلهم إذن مشاعرُ كما هي للأحياء، فالموتُ الذي وقع عليهم بواسطة القتل تسبَّب في مفارقة أرواحهم لأجسادهم وتسبَّب في صيرورة أجسادهم جُثثًا ساكنة أو أشلاءً مبدَّدة ولكنَّ هذا الموت لم يتسبَّب في فناء أرواحِهم كما لم يتسبَّب في فقدانِها لخاصيَّة الحياة من الإدراك والشعور.

ثم إنَّ ذيل الآية الشريفة ظاهٌر في أنَّ هذه المِنح الإلهيَّة إنَّما حظيَ بها القتيل في سبيل الله لأنَّ الله تعالى لا يُضيع أجرَ المؤمنين، ومقتضى ذلك هو عدمُ اختصاص القتيل في سبيل الله بهذه المِنح الإلهيَّة، فكلُّ مَن كان واجدًا لمستوى الإيمان الذي ينعمُ به القتيلُ في سبيل الله أو كان واجدًا لما يفوق ذلك وكان ملتزمًا بمقتضيات الإيمان فإنَّه يحظى بالمِنح الإلهيَّة التي يحظى بها القتيل في سبيل الله، لأنَّ الله تعالى لا يُضيع أجرَ المؤمنين، وعليه فكما أنَّ القتيل في سبيل الله حيٌّ بعد انتقاله من هذه الدنيا كذلك غيرُه ممَّن يناظرُه أو يفوقُه في مستوى الإيمان والالتزام بمقتضياته، والآية إنَّما نصَّت على حياة القتيل لأنَّها كانت بصدد الحديث عن المِنح التي يحظى بها القتيلُ في سبيل الله.

ومن الآياتِ التي تدلُّ على حياة الانسان في عالم البرزخ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(12).

فهذه الآية صريحةٌ أيضًا في أنَّ الذين يُقتلون في سبيل الله أحياءٌ رغم أنهم قُتلوا أي ماتوا دون ريبٍ بواسطة القتل، فهم إذن أحياءٌ بذواتِهم وأرواحِهم، وأما أجسادُهم فقد صارت بالوجدان والمعاينة جثامينَ خامدة شأنُها في ذلك شأنُ سائر الجمادات.

وتُضيف هذه الآية تأكيدًا على حياة مَن يُقتل في سبيل الله فتقول إنَّهم أحياء ولكن لا تشعرون أي إنَّ وصفنا لهم بالأحياء ليس تعبيرًا مجازيًا بل هم أحياءٌ حقيقةً وواقعًا غايتُه أنَّ أبناء هذه النشأة لا يشعرون بحياتِهم، وذلك لأنَّهم انتقلوا إلى نشأةٍ أخرى وهي من شؤون الغَيب غير الخاضعة لمُدركات الحسِّ التي يمتلكُها انسانُ في هذه النشأة، لذلك فإنسانُ هذه النشأة لا يشعرُ بحياتِهم ولكنَّه إذا آمن بالرسول الكريم (ص) وأنَّ القرآن منزَّلٌ من عالِم الغيب والشهادة فيلزمُه التصديق بكلِّ ما جاء به وإنْ لم يُدرِك حقيقتَه وكنهه.

وأمَّا دعوى أنَّ هذه الخصوصيَّة -وهي بقاء الحياة- إنَّما هي ثابتة للذين يُقتلون في سبيل الله تعالى خاصَّة فجوابُها أنَّ آية: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ -كما اتَّضح مما تقدم- تصلح لنفي دعوى اختصاص الحياة في عالم البرزخ بالشهداء بل هي شاملة -بمقتضى الآية- للعصاة والكافرين فضلاً عن المؤمنين.

على أنَّه إذا ثبت أنَّ الذين يُقتلون في سبيل الله أحياءٌ فما الذي يمنعُ من إمكانيَّة أنْ تكون الحياة ثابتة لغيرهم من الأموات، فالشهداءُ وغيرُهم أمواتٌ وقد تتطابق طريقة موتِهم، فإذا ثبت بالقرآن أنَّ الشهداء أحياءٌ فيُمكن أنْ يكون غيرُهم أحياءً أيضًا غايتُه أنَّ ذلك يحتاج إلى إثبات، ويكفي لإثبات ذلك بعد ثبوت الإمكان أنْ يتصدَّى الرسول الكريم (ص) المتَّصل بعالَم الغيب للإخبار بأنَّ كلَّ مَن يموت فإنَّ ما يفنى منه هو الجسد دون الروح وأنَّ روحه تظلُّ حيَّةً شاعرةً ومُدرِكة متنعِّمة أو معذَّبة أو لا هي معذَّبة ولا هي متنعِّمة، ولا ريب أنَّه قد ثبت بالتواتر الإجمالي عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع) أنَّ الأرواح تظلُّ حيَّةً بعد الموت، بل ثبت ذلك بالقرآن المجيد حيث أفاد أنَّ الأرواح تُقبض ولا تفنى وأنَّها ترجعُ إلى ربِّها أي إلى المقرِّ الذي قضاهُ عليها.

حياة البرزخ لاتختصُّ بالشهداء:

ويُؤيِّدُ ما دلَّت عليه آية: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ وما أفادته الروايات من أنَّ الحياة في عالم البرزخ لا تختصُّ بالمؤمنين فضلاً عن اختصاصها بالشهداء يُؤيد ذلك قوله تعالى من سورة غافر: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾(13).

فالآيةُ تتحدَّث عن أنَّ آلَ فرعون يُعرضون على النار صباحَ مساء، فإذا جاء يوم القيامة أُدخلوا في عذابٍ أشد ممَّا كانوا يتلقَّونه من عذابٍ قبل يوم القيامة، فمقتضى أنَّهم يُعرضون على النار صباح مساء قبل يوم القيامة هو أنَّهم على قيد الحياة قبل يوم القيامة والحال أنَّهم قد هلكوا، فالمتعيَّن أَّنَّ العذاب الذي يُعرضون عليه صباحَ مساء يقعُ عليهم في النشأة التي تفصلُ بين الدنيا والآخرة، وهي المعبَّر عنها بعالم البرزخ.

ثم إنَّ الكلام بعد ثبوت أنَّ للإنسان حياةً في عالم البرزخ يقعُ حول ما هو الدليل على ثبوت العذاب والنعيم في عالم البرزخ؟ وما هي طبيعةُ هذا العذاب لو ثبت أنَّه واقعٌ، وما هي طبيعة هذا النعيم، وهل أنَّ كلَّ إنسان ينتقلُ إلى عالم البرزخ فهو إمَّا منعَّم أو هو معذَّب أو أنَّ ثمة مَن لا يشقى بعذابٍ ولا يحظى بنعيم؟

ثبوت العذاب والنعيم في البرزخ:

أمَّا الدليل على ثبوت العذاب والنعيم في الجملة لمَن انتقل إلى عالم البرزخ فذاتُ الآيات التي تلوناها كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ / فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ / يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنَّ هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أحياءٌ عند ربِّهم ينعمون برزقِه ويشعرونَ بالفرح والسرور لِما ينالُهم من عطاء الله وفضله، ثم إنَّ ذيل الآية يؤكِّد أنَّ ذلك لا يختصُّ بمَن يُقتل في سبيل الله بل يشملُ عموم المؤمنين كما هو مقتضى الظهور من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإنَّ مفاد هذه الفقرة من الآية هو أنَّ ما يحظى به القتيل في سبيل الله من نعيمٍ وسرور إنَّما نشأ عن أنَّ الله لا يضيع أجر المؤمنين، ومعنى ذلك أَّنَّ كلَّ مَن كان واجدًا لحقيقة الإيمان بالمستوى الذي عليه القتيل في سبيل الله أو بما هو أعلى منه فإنَّه سيحظى بما حظيَ به القتيل في سبيل الله من نعيمٍ وسرور.

وكذلك يُمكن الاستدلال على وقوع العذاب في الجملة على مَن ينتقل إلى عالم البرزخ بقوله تعال: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.

وتقريبُ الاستدلال بالآية على ذلك نتحدثُ عنه فيما بعدُ إن شاء الله تعالى.

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد، واغفر لعبادك المؤمنين

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(14).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

20 من شوال 1444هـ - الموافق 12 مايو 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة النحل / 30.

2- سورة المؤمنون / 99-100.

3- سورة الفرقان / 53.

4- سورة النمل / 61.

5- سورة الرحمن / 19.

6- سورة المنافقون / 10.

7- سورة الزمر / 42.

8- سورة السجدة / 11.

9- سورة الأنعام / 61-62.

10- سورة الفجر / 28.

11- سورة آل عمران / 169-171.

12- سورة البقرة / 154.

13- سورة غافر / 45-46.

14- سورة النصر / 1-3.