الحُجُرات: رفعُ الصوت في مَحْضَرِ النبيِّ الكريم (ص) وعند قبرِه

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربِّ العالمين اللهمَّ أنت السميعُ العليم، وأنت الواحدُ الكريم، وأنت الالهُ الصمَد، رفعتَ السماوات بقدرتِك، ودحوتَ الأرض بعزَّتِك، وأنشأت السحابَ بوحدانيتِك، وأجريتَ البحارَ بسلطانِك سبحانك لا إله إلا أنت، إنَّك أنتَ الغفورُ الرحيم، وصل على محمَّدٍ عبدِكَ المرتضى، ورسولِك المصطفى، وأمينِك ونجيِّك دون خلقِك، ونجيِّك من عبادِك ونبيِّك، ومَن جاء بالصدقِ من عندِك، وحبيبِك المفضلِ على رسلِك، وخيرتِك من العالمين، البشيرِ النذيرِ، السراجِ المنير، وعلى أهل بيتِه الأبرارِ الطاهرينَ الأئمةِ المهتدينَ الراشدينَ، وأوليائك المطهَّرين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

عباد الله أُوصيكم ونفسي بتقوى الله واعلموا أنَّ علاماتِ المؤمنِ خمس: الورعُ في الخلوة، والصدقةُ في القِلَّة، والصبرُ عند المصيبة، والحِلمُ عند الغضب، والصدقُ عند الخوف.

 

أمَّا بعدُ فيقولُ الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(1).

 

كنا قد تحدَّثنا فيما سبَقَ عن سبب نزول هذه الآية المباركة والتي قبلها، وقلنا إنَّها متصدِّيةٌ لبيان واحدٍ من الآداب التي يجبُ على المكلَّف رعايتها في محضر الرسول الكريم (ص) فلا يجوز للمكلَّف أنْ يرفع صوتَه في محضره الشريف سواءً كان خطابُه موجَّهاً للرسول (ص) أو كان خطابُه موجَّهاً لغيره ففي كلا الفرضين يجبُ على المكلَّف خفضُ صوته رعايةً لمحضر الرسول الكريم (ص)

 

خفضُ الصوتِ أدبٌ قرآني مع كافَّة الناس:

هذا الأدبُ القرآني الذي أشارت إليه الآيةُ المباركة ينبغي أن يكون مُطّرداً في تمام الأحوال ومع كافَّة الناس، فيحسنُ بالمؤمنٍ المتأدِّبٍ بآداب الإسلام أن يكون صوتُه خفيضاً أو قل معتدلاً متناسباً مع مقتضيات الأحوال، فكما أنَّ لكلِّ مقامٍ مقال كذلك فإنَّ لكلِّ مقام ما يناسبه من الحدَّة والانخفاض في الصوت فلا ينبغي للمؤمن أن يُعلي من صوته أثناء حديثه أو محاوراته بنحوٍ يتأذى منه المتلقِّي لكلامه أو يتأذَّى منه جليسُه أو السامعُ لكلامه، لذلك جاء القرآن المجيد ليؤكِّد على حسن الرعاية لهذا الأدب الرفيع، وكذلك جاءت الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) لتحضَّ على التخلُّق بهذا الخلق المحمود والذي يعبِّر عن استقرار النفس والثقة بها وكذلك هو يعبِّر عن احترام الآخرينَ والتقديرِ لهم.

 

وصية لقمان (ع) لابنه:

ففي وصية لقمانَ (ع) لابنه كما في سورة لقمان: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾(2) ومعنى القصدِ في المشي هو أنْ يكونَ المشيُ متئداً مُعتدلاً فلا هو بالسريع ولا هو بالبطيء المعبِّرِ عن الكسل أو التثاقل، فالمشيُ ينبغي أن يكون قصداً وسطاً يتَّسم بالسكينة والوقار. والوصية الأخرى التي أفادها لقمان هي قوله: ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ يعني ليكنْ صوتك حين تحدِّثُ الآخرين أو تحاورُهم خفيضاً، فإنَّ ذلك من سِماتِ المؤمن المتَّزنِ الوقور.

 

وروي عن الرسول الكريم (ص) أنَّه قال: "إنَّ الله يُحبُّ الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع"(3) فالغرضُ من الكلام هو إيصالُ المراد إلى المخاطَب وذلك يتحقَّقُ بصوتٍ يسمعُه المتلقِّي للخطاب، فحين يلتزم المتكلمُ بالصوت المعتدل يكونُ قد توصَّل لغرضه وبلغَ مرادَه وفي ذات الوقت يكون قد تحفَّظ على وقارِه وسمته، ولم يُؤذِ الآخرين بصوته.

 

فالبعض قد يتوهَّم أنَّ رفع الصوت يُساهم في الغلبة وإثبات الحُجَّة، ويكون أبلغَ في الوصول إلى الغرض، والحال أنَّ الأمر قد لا يكون كذلك، وغالباً لا يكون كذلك، فقد يُساهم رفعُ الصوتِ في أنْ لا يعي الطرفُ المخاطَب قولك أو أن لا يستجيب لدعواك؛ لأنَّه إما أنْ يتأذَّى من صوتك لارتفاعه، أو يتوهَّمُ أنَّ ارتفاع صوتك كان منشأه استصغارَه والاستخفافَ به، فلا يعتني بقولك ولا يقبله؛ ولعلَّه لذلك قال أميرُ المؤمنين (ع): "أميتوا الأصوات، فإنَّه أطردُ للفشل"(4) فإذا كنتَ تُريد أن تصل إلى غرضِك ومرامِك فلماذا هذه الجلَبة؟! ولماذا تتوسُّل بالصراخ أو بالصوت المرتفع؟! إنَّ الصوت الرفيع قد يُوقعُك في الفشل، أي أنَّه قد لا يتحقَّق معه مُرادُك وغرضُك من هذا الكلام الذي جئتَ به.

 

إنَّ الله يكرُه من الرجالِ الرفيعَ الصوت:

ويقول النبي الكريم ( ص) -كما رُوي عنه-: "إنَّ الله يكرُه من الرجالِ الرفيعَ الصوت، ويحبُّ الخفيضَ الصوت"(5) ثمَّة رجالٌ يُحبُّهم الله تعالى، وآخرون لا يُحبُّهم. مَن اعتاد رفع الصوت في حديثه وفي مخاطبته للآخرين فهو غيرُ محبوبٍ لله تعالى -بحسب الرواية- وذلك ما يعني مرجوحية رفع الصوت. ومن اعتاد خفض صوته فهو محبوب لله تعالى وفي ذلك تعبير عن رجحان خفض الصوت أثناء المحادثة. ولعلَّ منشأ مبغوضية رفع الصوت هو أنَّه يكون سبباً في إيذاء المخاطَب وشعورِه بالامتعاظ وسبباً في إيذاء الحاضرين وامتعاظِهم وذلك لأنَّه مضافاً إلى كونه موجباً لإيذاء سمعهم فإنَّه يُوحي بعدم الاحترام للمخاطَب أو عدم الاحترام للحاضرين، ولعلَّ منشأ مبغوضية رفع الصوت أيضاً هو أنَّ فاعله لا يخلو عادة من الشعور بالاستعلاء والإعجاب بالنفس.

 

خفضُ الصوت وغضُّ البصر ومشيُ القصد:

ويقول أميرُ المؤمنين (ع) -فيما يُروى عنه-: "خفضُ الصوت، وغضُّ البصر، ومشيُ القصد من أمارة الايمان وحُسن التديُّن"(6) فثمة فرقٌ بين إنسانٍ متديِّن، وآخر يكونُ تديُّنه متميزاً بالحُسْن؛ فالواجدُ للخصال الثلاث يكون تديُّنه -بحسب الرواية- متميِّزاً بالحُسْن، فأولُ هذه الخصال هو خفضُ الصوت المعبِّر عن التواضع والاحترام للآخرين.

 

والثاني من هذه الخصال هو غضُّ البصر، ومعنى غضِّ البصر هو صرفُ النظر عن شيئين: الأول عمَّا يحرم النظرُ إليه، كالمرأة الأجنبية، والمشاهد الخادشةِ للحياء والمنافيةِ لمقتضايات العفَّة، والثاني هو غضُّ البصر عمَّا لا يعنيك، فلا يليقُ بالمؤمن أن يُلاحق ببصره أحوالَ الناس وخصوصياتِهم، أين ذهبوا ومِن أين جاؤوا، وماذا يلبسون وماذا يأكلون بل ورد في الأدب النبويِّ النهيُ عن النظر إلى جليسِك على المائدة كيف يأكل، وكذلك لا يليقُ بالمؤمن أن يُمعِنَ النظر في كيفية مِشية أخيه أهي سليمةٌ أم يعتريها شيءٌ من الخلل وأنْ يُحدَّ النظرَ في هيئته ولباسِه وكيفيَّة جلوسِه وقيامِه. والأسوأُ من ذلك أن يُلاحقه بنظره فيما يفعل ويتتبَّعَ أحوالَه ويفحصَ عن شؤونه وخصوصياتِه ويتدخلَ فيما لا يعنيه من شأنِ أخيه فإنَّ ذلك منافِ للأدب النبوي.

 

والثالث من علامات حُسن التديُن هو "مشيُ القصد" ومعناه الاعتدالُ في المشي، فلا هو بالسريع كما هي مشية بعض البهائم -أجلكم الله- ولا هو بالبطيء كما هي مشيةُ العاجزِ أو المتثاقل الكسول بل هي قصدٌ ووسط بين المِشيتين على أن لا يعتريها ما يُعبِّر عن الخيلاء والتبختر ولا يعتريها ما يُعبِّر عن المسكنة والخنوع.

 

ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: "كان رسولُ الله (ص) إذا مشى تكفَّأ كأنَّما يتقلَّعُ من صَبب"(7) فلم يكن متضعضعاً في مِشيته، ولا هو مختال فيها، ولا يظهرُ عليه استعجال ومبادرةٌ شديدة، وعن ابن عباس قال: كان رسولُ الله (ص) إذا مشى مشى مشياً يُعرف أنَّه ليس بمشي عاجزٍ، ولا كسلان"(8).

 

كراهةُ رفع الصوت عند الجنازة:

هذا وقد ورد التشديد على كراهة رفع الصوت في مواضعَ منها رفعُ الصوت عند الجنازة ففي وصية الرسولِ الكريم (ص) لأبي ذر قال: يا أبا ذر اخفض صوتك عند الجنائز"(9) وورد أنّ النبيَّ (ص) كان يكرهُ رفعَ الصوت عند الجنازة"(10) فالصراخُ مرجوحٌ بل لعلَّه من الجزع، وأمَّا رفعُ الصوت مِن قبل مَن يشهدُ الجنازة من الناس فالتشديد على كراهته -بحسب الرواية- منشأهُ ظاهراً هو منافاته لتعزية المُصاب، فخفضُ الصوت هو الأليقُ بالتعزية والمواساة، فقد يشعرُ المُصاب بالضيق حين يجد الحاضرين يتحدَّثون فيما بينهم حول شؤونهم بصوت مرتفع وكأنَّهم غيرُ عابئين بمُصابه، وقد يكونُ المقصود من الرواية هو كراهةُ رفع الصوت بمثل التهليلِ والاستغفار فإنَّ رفعَ الصوت عن حدِّ الاعتدال قد يسلبُ عن المستغفِر الشعورَ بالخشوع، ويشغلُ الحاضرين عمَّا ينبغي أن يكونوا عليه من الخشوع والاتِّعاظ بما يقتضيه جلالُ الموتُ وأجواءُ الجنازة.

 

وكيف كان فإنَّ خفضَ الصوت من الآداب التي حضَّ القرآنُ المجيد والسنَّةُ النبويَّة على التخلُّقِ به مع سائر الناس ولكنَّه يرقى لمستوى اللزوم في محضر النبيِّ الكريم (ص) فمَن رفع صوتَه في محضره الشريف فقد ارتكب معصيةً كما هو صريح الآية المباركة والتي نهتْ عن رفع الصوت، وأفادت أنَّ رفعه يُوجبُ حَبْط العمل.

 

منشأُ رفع الصوت في محضر النبيِّ الكريم (ص):

ورفعُ الصوت في محضر النبيِّ الكريم (ص) قد ينشأُ عن الاستخفافِ والاستهانة بالرسول (ص) وذلك لعدم الإيمان واقعاً بمقامِه الشريف وذلك من شُعَبِ الكفر بالله عزَّوجلَّ، وقد لا ينشأ -كما لعلَّه الغالب- رفعُ الصوت عن الاستخفاف وعدم الرعاية لمقام الرسول الكريم (ص)، وإنَّما ينشأُ عن الغفلة عمَّا ينبغي التأدُّبُ به في محضر الرسول الكريم (ص)، وذلك من سوءِ الأدب. وفي كلا الفرضين يكونُ رفعُ الصوت مرجوحاً، ويُوجبُ حبطَ العمل.

 

حرمةُ رفع الصوت عند قبر النبيِّ (ص):

ثم إنَّه كما يحرمُ رفع الصوت في محْضرِ النبيِّ الكريم (ص) في حياتِه كذلك يحرمُ رفعُ الصوت عند قبره الشريف كما نصَّتْ على ذلك بعض الروايات وكما أفاد ذلك الفقهاء، فحرمةُ النبيِّ (ص) في حياته كحرمته بعد وفاته سواءً بسواء وفي كلا الحالين يكون رفعُ الصوت موجباً لحبط العمل الذي أفادته الآية المباركة والذي سوف نتحدَّث عن معناه وعمَّا يعتقده الإمامية في حبط الطاعة إنْ شاء الله تعالى.

 

اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد واغفرْ لعبادِك المؤمنين.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(11).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

23 من شهر جمادى الأولى 1445هـ - الموافق 8 ديسمبر 2023م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز

--------------------------

1- سورة الحجرات / 2.

2- سورة لقمان / 19.

3- منية المريد -الشهيد الثاني- ص213.

4- نهج البلاغة -خطب الإمام علي- ج2 / ص3.

5- الجامع الصغير -السيوطي- ج1 / ص296.

6- عيون الحكم والمواعظ -الليثي الواسطي- ص242.

7- مكارم الأخلاق -الطبرسي- ص22.

8- مكارم الأخلاق -الطبرسي- ص22.

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج6 / ص210.

10- المصنف -ابن أبي شيبة- ج3 / ص160.

11- سورة العصر