المرادُ مِن ظاهرِ الإثم وباطنِه

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾(1) ما هو المراد من باطن الإثم؟ وهل يُحاسب الإنسان على ما يخطر في قلبه؟

 

الجواب:

معنى: ﴿وَذَرُوا﴾:

الآية المباركة بصدد النهي عن مطلق الإثم الذي لا يخلو إمَّا أن يكون ظاهراً أو يكون باطناً، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا﴾ هو الأمر بالترك فهي مشتقَّة من وذِر الشيء بمعنى تركه، ولا تُستعمل هذه المادَّة عادة إلا في الفعل المضارع والأمر، ولهذا لم يستعملها القرآن المجيد إلا في ذلك.

 

 فمِن موارد استعماله لها في الفعل المضارع قوله تعالى: ﴿لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ﴾(2) يعني لا تُبقي ولا تترك أو لا تدع، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾(3) أي ويتركون العمل بما يؤمِّن لهم النجاة يوم القيامة، وقوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا﴾(4) أي يتركون بعد موتهم أزواجاً، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾(5) أي ما كان الله ليدع المؤمنين ويتركهم دون تمحيص.

 

ومن موارد استعماله لها في فعل الأمر قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(6) أي اتركهم أو دعْهم في خوضهم يلعبون، وقوله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾(7) وقوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾(8) أي اتركهم.

 

الأمر بترك الإثم هو الأمر بترك موجبات الإثم:

فمعنى قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ هو الأمر بترك ظاهر الإثم وباطنه، والأمر بترك الإثم هو الأمر بترك موجبات الإثم وهي المعاصي، فالإثم هو الأثر المترتِّب على المعاصي، فيكون معنى الأمر بترك الإثم هو الأمرُ بترك مُوجباته وهي المعاصي، فالمعاصي هي السبب والإثم هو المسبَّب، والأمر بترك المسبَّب يؤول إلى الأمر بترك سببه.

 

المعاني المحتملة لظاهر الإثم وباطنه:

وأمَّا ما هو المراد من ظاهر الإثم وباطنه فذُكرت له احتمالات عدَّة أهمُّها:

 

الاحتمال الأول: أنَّ المراد من ظاهر الإثم هو ارتكاب مُوجبِه في العلن، والمراد من باطنِه هو ارتكابه في السِّرِّ، فالظهور والعلن -بناءً على ذلك- هو ظرفُ ارتكاب الإثم، وعليه فالمعصية الواحدة قد تكون مِن ظاهر الإثم وفي ذات الوقت تكون من باطن الإثم وذلك بلحاظ ظرف ارتكابها، فهي بلحاظ ارتكابها في العلن تكون من ظاهر الإثم، وبلحاظ ارتكبها في السرِّ تكونُ من باطن الإثم.

 

وعليه تكون إضافة الإثم إلى الظاهر والباطن من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فمعنى ظاهر الإثم هو الإثم الظاهر، والمراد من باطن الإثم هو الإثم الباطن، فالمضاف إليه -الإثم- هو الموصوف والظاهر هو صفته، وكذلك الباطن هو الصفَّة والإثم هو الموصوف.

 

وذكر عددٌ من المفسِّرين أنَّ المراد من ظاهر الإثم هو الزنا في العلن، والمراد من باطن الإثم هو الزنا في السرِّ، وذلك لأنَّ العرب في الجاهليَّة كانت تعتبر الزنا بذوات الرايات والمعروفات بالبغي من الفواحش، ولكنَّها لا ترى بأساً في أنْ يتَّخذَ أحدُهم خدينا له يفجرُ بها في السِّرِّ، لذلك تصدَّت أكثر من آية للنهي عن الزنا مُطلقاً كما في قوله تعالى: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾(9) وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾(10) وكذلك جاءت الآية -بنظرهم- لتنهى عن الزنا بالمشهورات والزنا بالأخدان، وعبَّرت عن الزنا في الفرض الأول بباطن الإثم، وعن الزنا في الفرض الثاني بظاهر الإثم، وكذلك فسَّروا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾(11) وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾(12).

 

إلا أنَّ هذا القول -لو تمَّ- فإنَّه ينبغي عدُّه بياناً لمصداق ظاهر الإثم وباطنه، إذ لا موجب لتخصيص إطلاق الآية بالمورد المذكور.

 

الاحتمال الثاني: أنَّ المراد من ظاهر الإثم هي المعاصي التي تُرتكب بواسطة الجوارح كالكذب والغيبة والزنا وشرب الخمر والسرقة والغصب، فهذه من ظاهر الإثم وإنْ ارتكبت في السرِّ، وأمَّا باطن الإثم فهي أفعال القلوب المحرَّمة والمنهي عنها كالشرك بالله تعالى والرياء، والنفاق، والموالاة لأعداء الله تعالى، والبغض لأولياء الله جلَّ وعلا. فهذه من أفعال القلوب المحرَّمة وهي المقصودة من باطن الإثم بناءً على هذا الاحتمال.

 

ولو تمَّ هذا الاحتمال فإنَّ منشأ وصف معاصي الجوارح بظاهر الإثم هو قابليتها للظهور وإنْ ارتُكبت في السرِّ أو لأنَّها معاصٍ تظهر على الجوارح كاللسان واليد والأذن والعين. وأمَّا أفعال القلوب المحرَّمة كالشرك والنفاق فهي غير قابلة للظهور بنفسها إلا من طريق التصريح بها بواسطة الجوارح كجارحة اللسان، فهي من أفعال الباطن وهي النفس لذلك ناسب وصفها بباطن الإثم.

 

ما يحرم من أفعال القلوب:

ولا يردُ على هذا الاحتمال ما ثبت من أنَّ الله تعالى لا يُحاسب الإنسان على ما يخطر في نفسه من خواطر، فإنَّ ذلك صحيح إلا أنَّ ثمة أفعالاً اختياريَّة للقلوب يصحُّ النهي عنها، فمتى ما اختار الانسان البناء عليها فهو عاصٍ، فلا فرق بين أفعال الجوارح وأفعال الجوانح إذا كانت اختياريَّة، فكما يصحُّ النهي عن أفعال الجوارح الاختياريَّة كذلك يصحُّ النهي عن أفعال القلوب الاختياريَّة، فإذا اختار العبد مخالفة النهي المولوي فهو عاصٍ.

 

نعم ثمة معاصٍ جوارحيَّة إذا همَّ الإنسان بارتكابها ثم لم يرتكبْها كما لو همَّ بالكذب ولم يكذب، فهو غير عاصٍ لأنَّ المنهيَّ عنه هو الفعل الجوارحي وهو لم يرتكبه -بحسب الفرض- لذلك لا يكون عاصياً، ومجرَّد الرغبة أو العزم لا يُصيِّره عاصياً، فهو غير منهيٍّ عن العزم وإنَّما هو منهيٌّ عن الفعل الجوارحي، وهذا بخلاف أفعال القلوب المنهي عنها كالرياء فإنَّها بنفسها منهيٌّ عنها وهي اختياريَّة لذلك يكون بناءُ القلب عليها معصيةً لمَن له حق الطاعة وهو الله جلَّ وعلا.

 

الاحتمال الثالث: أنَّ المراد من ظاهر الإثم هي المعاصي الشنيعة التي لا تخفى شناعتها وقبح التلبُّسِ بها وُيدرك العقل والعقلاء ما هي عليه من قبح وشناعة كالشرك بالله تعالى والفساد في الأرض والظلم والبغي والعدوان فهذه وشبهها هي المراد من ظاهر الإثم، وأمَّا باطن الإثم فالمراد منه الآثام التي لا تكون كذلك، فهي غير مستقبحة ولا مستبشعة في نفسها وإنَّما تُعرف حرمتها من طريق النهي عنها من قبل الشريعة، وذلك مثل أكل الميتة وغير المذكَّى من اللحوم وشرب الدم وما أشبه ذلك من المنهيات، وهذا الاحتمال استظهره صاحبُ الميزان(13) رحمه الله تعالى استناداً إلى ما يقتضيه سياق الآية المباركة، فهي قد جاءت في سياق الأمر والرخصة في أكل ما ذُكر اسم الله عليه ثم أفادت أنَّ الله تعالى قد فصَّل للناس ما حرَّم وما أباح ثم قال تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ وعقَّب ذلك بالنهي عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه ووصفه بالفسق للتأكيد على حرمته، وذلك يعطي بأنَّ الأكل ممَّا لم يُذكر اسم الله عليه من باطن الإثم لذلك احتاج إلى تأكيده فكأنَّ قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ سِيق للتمهيد وبيان أنَّه كما يلزمكم اجتناب الإثم الذي لا ستر ولا خفاء في كونه إثماً لشناعته كذلك يلزمكم اجتناب الإثم الذي لا وضوح في كونه إثماً لولا النهي عنه.

 

فمفاد الآية هو أنَّه كما يلزمكم اجتناب الآثام التي لا خفاء في كونها من الآثام لشناعتها كذلك يلزمكم اجتناب الآثام التي لا تُعرف إلا من طريق نهي الشريعة عنها، فهذه بمقتضى ظاهر السياق هي المقصودة مِن باطن الإثم.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

15 / شهر رمضان / 1445ه

26 / مارس / 2024م

--------------------------

1- سورة الأنعام / 120.

2- سورة المدثر / 28.

3- سورة الإنسان / 27.

4- سورة البقرة / 234.

5- سورة آل عمران / 179.

6- سورة الأنعام / 91.

7- سورة الأنعام / 70.

8- سورة الأنعام / 112.

9- سورة النساء / 25.

10- سورة المائدة / 5.

11- سورة الأنعام / 151.

12- سورة الأعراف / 33.

13- الميزان في تفسير القرآن -السيد الطبأطبائي- ج7 / ص333.