معنى قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما معنى الجُذاذ في قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾(1) وعلى أيِّ شيءٍ يعود الضمير في قوله: ﴿إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾؟

الجواب:

معنى الجُذاذ:

معنى قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ هو أنَّه (ع) صيَّرهم قطعاً أو حُطاماً فامتحت بفعله الصورة التركيبية لكلٍّ منهم، فالجُذاذ مشتقٌّ من الجذَّ والذي هو بمعنى كسر الشيء الصلب وتفتيته، ويقال لفُتات الذهب جُذاذ(2) وكذلك يقال للقطع المتكسِّرة جُذاذ، ومنه جذذتُ الشيء بمعنى كسرته، وجذذت الشيء فانجذَّ بمعنى قطعته فانقطع، ومنه قوله تعالى يتحدَّث عن نِعَمِ الجنَّة: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾(3) أي غير مقطوع أو غير متقطِّع، ومنه ما أثر عن أمير الؤمنين (ع) أنَّه قال في خطبته الشقشقيَّة: "وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ"(4) أي مقطوعة كناية عن عدم وجود الناصر، وفي لسان العرب(5) أنَّ الجذَّ هو القطع السريع المستأصِل للشيء، وبناءً عليه يكون مفاد الآية أنَّ تحطيم إبراهيم (ع) للأصنام كان بنحو المحو لصورها التركيبية بحيث أصبحت قطعاً وحجارة لا يَعرف غيرُ المسبوق بها أنَّها كانت على صور الأصنام، فهذه الحال هو المناسب للاستئصال. أي أنَّ الاستئصال يُناسب أنَّ تحطيمه لها كان بنحو المحو لصورتها وكذلك هو المناسب لكون الجذ بمعنى التكسير المفضي للتفتيت وتحويل الشيء إلى فُتات.

ثم إنَّ صيغة جُذاذ بالضم بمنزلة المصدر من حيث أنَّه يقع على الواحد والمثنى والجمع وعلى المذكر والمؤنث فيقال مثلاً جعلت الصنم جُذاذاً وجعلتُ الصنمين جُذاذاً وجعلت الأصنام جُذاذاً وجعلت القارورة جذاذاً فهو مثل رُفات وحُطام وفُتات ودقاق، ويكون بمعنى اسم المفعول، وثمة من قرأ جذاذ بكسر الجيم وعليه يكون لفظ جذاذ من الجمع ومفرده جذيذ مثل كرام وكريم وخفاف وخفيف، والجذيذ بصيغة فعيل بمعنى مجذوذ كهشيم بمعنى مهشوم وكسير بمعنى مكسور.

مفاد الآية ومنشأ عدم تحطيم الكبير:

وعلى أيِّ تقدير فمفاد الآية الشريفة أنَّ نبيَّ الله إبراهيم (ع) عمِد إلى بيت الأصنام وقام بتحطيمها وتصييرها قطعاً محطَّمة وترك منها كبيرها لم يُحطمه، والمراد من كبيرها هو أنَّه كان الأكبر من حيث الحجم أو أنَّه كان الأكبر من حيث المقام بزعمِهم، وكانت غايته -ظاهراً- من تركه وعدم تحطيمه التنبيهَ لهم على فساد معتقدهم إمَّا بأن يرجعون إليه فيسألونه عمَّا وقع فحين لا يجدون منه جواباً يثوبون إلى رشدهم، وإمَّا بأنْ يرجعون إليه فيسألونه عن منشأ عدم دفاعه عنهم وهو الأكبر والأعظم وحيث لم يقوَ على الدفاع عنهم فهو غير جدير بأن يُعبد، ولعلَّ كلا الغايتين كانت مرادة لإبراهيم (ع) فهو قد أراد من عدم تحطيمه الإيحاء لهم أنَّ هذا الأكبر رغم شهوده للواقعة لم يتمكن من تحمُّل الشهادة والإدلاء بها ورغم أنَّه الأكبر لم يتمكن من الدفع عنهم وأنَّ الذي حطَّمهم لو شاء لحطَّمه معهم ثم خرج معافى لم يناله منه سوء.

ولعلَّ منشأ عدم تحطيمه لكبير الأصنام هو أنَّه أراد أنْ يتّهمه -في مقام المحاججة- بتحطيم بقية الأصنام ليتنبهوا من ذلك بأنَّه لا يمكن أن يقع منه ذلك لأنَّه جماد لا يتحرَّك ولا يصدر عنه فعل فيكون ذلك سبباً لتنبههم على فساد معتقدهم ولعلَّ ما يؤيد أنَّ ذلك هو غايته من عدم تحطيم الكبير قوله (ع) حين سألوه: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾(6) ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾(7).

مرجع الضمير في ﴿إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ:

وممَّا ذكرناه يتَّضح أنَّ مرجع الضمير "إليه" في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ يعود على الصنم الكبير فهو قد تركه فلم يحطمه ليرجعوا إليه، ويؤكد رجوع الضمير إليه أنَّه الأقرب في الذكر قال تعالى: ﴿إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ يعني إلا كبيرا لهم لعلهم إلى الكبير يرجعون.

وثمة احتمال أنَّ الضمير في "إليه" يعود على إبراهيم (ع) أي لعلَّهم يرجعون إلى إبراهيم (ع) يعني يرجعون إلى مقالته التي طالما حدَّثهم بها وهي أنَّ هذه الأصنام ليست آلهة، فهي لا تضر ولا تنفع بل ولا تدفع عن نفسها سوءً أو أنَّهم يرجعون إلى إبراهيم لعلمهم أنَّ أحداً لا يفعل هذا الفعل غيره فيرجعون إليه لمساءلته وحينها يبيِّن لهم أنَّ هذه الأصنام ليس جديرة بالعبودية فهي لا تنطق ولا تدفع عن نفسها.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

27 / شهر رمضان / 1445ه

7 / إبريل / 2024م


1- سورة الأنبياء / 58.

2- مفردات ألفاظ القرآن -الراغب الأصفهاني- ص190.

3- سورة هود / 108.

4- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص48.

5- لسان العرب -ابن منظور- ج3 / ص479.

6- سورة الأنبياء / 62.

7- سورة الأنبياء / 63.