حول سورة التكاثر -2

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، اللهمَّ لك الحمدُ العظيمُ، والمنُّ القديم، والسلطانُ الشامخ، والحَولُ الواسع، والقدرةُ المقتدِرة، والحمدُ المتتابعُ الذي لا ينفدُ بالشكرِ سرمدا، ولا ينقضي أبدا، اللهمَّ لك الحمدُ عددَ ما أحاط به علمُك، وعددَ ما أدركتْه قدرتُك، وعددَ ما وسعتْه رحمتُك، وأضعافَ ذلك كلِّه حمداً واصلاً متواتراً متوازياً لآلائِك وأسمائِك، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.

عبادَ الله أُوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أنَّ خيرَ مفاتيحِ الأمورِ الصدقُ، وخيرَ خواتيمِها الوفاءُ، وخيرَ الزادِ التقوى، وخيرَ ما أُلقيَ في القلبِ اليقينُ، وخيرَ الغِنى غِنى النفسِ، وخيرَ الناسِ مَن انتفعَ به الناسُ.

يقولُ اللهُ تعالى في مُحكمِ كتابه المجيد: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ / حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ / كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ / ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾(1).

الحديث حولَ مفادِ الآياتِ التي تلوتُها يقعُ في محاور:

معنى اللهو ومدلول ألهاكم:

المحور الأول: حول مفاد قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ فإنَّه يَحتملُ الإخبار للمخاطَبين عن أنَّ التكاثر قد ألهاهم وأذهلَهم وشغلَهم عمَّا يُراد بهم وعمَّا ينبغي الاشتغالُ به، ويحتمِلُ أنَّ جملة ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ سِيقت لغرض الاستفهام الاستنكاري كما في قوله تعالى ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾(4) فيكون أصلُ الجملة -بناءً على هذا الاحتمال- هو: أألهاكم التكاثر، وحُذفت الهمزة الأولى للتخفيف، وعلى كلا التقديرين فإنَّ الظاهرَ من الآية المباركة هو أنَّها سِيقت لغرض التوبيخ والتقريع، وأنَّه لا ينبغي لكم اللَّهو والذهولُ عمَّا يُراد بكم وعمَّا خُلقتم لأجلِه.

ومعنى اللَّهو هو مُطلقُ ما يشغلُ الإنسانَ عمَّا تقتضيه الحكمة والتعقُّل، فمُطلقُ الصوارفِ والشواغل التي عادةً ما تنشأ عن هوى النفس وتصرفُ الإنسان عن الاهتمام بمقتضيات التعقُّل يصحُّ وصفُها باللَّهو، فالإنسانُ حين يشتغلُ بالصوارف والمُلهيات يكون ملتفتاً ومتوجِّهاً إليها فهو إذن لاهٍ لا بلحاظ المُلهيات وإنَّما هو لاهٍ بلحاظِ مقتضيات التعقُّل، فتفسيرُ اللَّهو بأنَّه الغفلة والذهول والنسيان معناه الغفلة والذهول عن الشؤون التي ينبغي للعاقل أنْ يَصرفَ اهتمامَه إليها.

المرادُ من التكاثر في الآية:

والمحور الثاني: فيما هو المراد من التكاثُر وهو يحتملُ معنيين:

الاحتمال الأول: هو أنَّ التكاثُر من باب المُفاعلة بين اثنين أو أكثر كأنْ يقولَ كلٌ منهما للآخر أنا أكثرُ منك مالاً أو قوَّة أو جاهاً كما في قوله تعالى: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾(5) وهذا هو المعبَّر عنه بالتفاخر والتباهي بمثلِ المال أو الجاهِ أو الملَكات أو بالحسَبِ والنسَب كما أشارَ لذلك قولُه تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾(6) فالتفاخرُ هنا- ظاهراً- بمعنى تبادل الفخر والتباري فيما بينهم على مَن يحظى بالأكثر.

والاحتمال الثاني: هو أنَّ المراد من صيغة التكاثُر هو تكلُّفُ الفعل حرصاً على تحصيلِ غايةٍ لا يتمُّ التحصيلُ لها إلا بمزيدٍ من العناية والتكلُّف كما في قولنا: تناسى زيدٌ فقيدَه أي أنَّه تكلَّف نسيانَه رغم صعوبةِ نسيانه، وكذلك حين يُقال: تغافلَ زيدٌ عن حقِّه، فإنَّ معنى ذلك أنَّه تكلَّف الغفلةَ عنه رغم تعلُّقه بحقِّه ورغبته في استيفائه، ولعلَّ مِن ذلك قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾(7) فهم يتكلَّفون قيامَ الليل رغم رغبتِهم الشديدةِ في النوم والراحة، وذلك للطمع منهم في ثواب الله تعالى والمحاذرةِ من سخطِه جلَّ وعلا.

كذلك هي صيغةُ التكاثر، فهي تعني تكلُّفَ جمعِ المال وتحصيلِ الجاه أو القوَّة، فرغم ما يترتَّب عن ذلك من متاعب إلا أنَّهم يتجشَّمونها ويستفرغون وِسعهم في سبيل تحصيلها، وذلك لجشعِهم وحرصِهم على المزيد، والظاهرُ أنَّ هذا المعنى للتكاثر هو المراد من قولِه تعالى في سورة الحديد: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ فالظاهرُ أنَّ المراد من التكاثرِ في هذه الآية هو تكلُّف جمعِ الأموالِ والاستزادةِ من الأولاد، فليس المرادُ من التكاثُر هو التباهي والتفاخر، وذلك بقرينة عطف فقرة: ﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ على فقرة: ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ والعطفُ يقتضي المغايرة.

المُستظهَر من الاحتمالين:

نعم لا يتعيَّنُ من ذلك أنَّ المراد من التكاثر في سورة التكاثر هو ذاتُه المراد من التكاثر في هذه الآية من سورة الحديد بل لا يبعد أنَّ الأظهرَ من لفظ التكاثر في سورة التكاثر هو المعنى الأول والذي هو التفاخر والتباهي بمثل الأموال والقوَّة والنسب، فإنَّ ذلك هو المنسبق للذهن من هذه الصيغة، ويُمكن تأييدُه بما ورد في سبب نزول السورة وأنَّها نزلت في تفاخر حيين من قريش أو في تفاخر فخذٍ من الأنصار أو في تفاخر اليهود، هذا مضافاً إلى ما يُمكن استئناسه ممَّا ورد عن أميرِ المؤمنين (ع) في قوله بعد تلاوته ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ﴾ قال (ع): "أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وحَرَكَاتٍ سَكَنَتْ، ولأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً، ولأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ، أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ "(8) فإنَّ الظاهر من سياق كلامه (ع) هو التصدِّي لما تصدَّت له الآياتُ من سورة التكاثر.

ولا محذورَ في البناءِ على أنَّ كلا المعنيينِ مرادٌ للسورة المباركة، فيكون مفادُها التقريع لمَن شغلهم وألهاهم وأذهلهم التكاثر بمعنى التفاخر والتباهي بالأموال والنسب والملكات، والتقريعَ لمَن شغلهم التكثير والاستزادة من المال والقوَّة عن الغاية التي خُلقوا من أجلِها.

التشنيع على التكاثر بمعنى الاستكثار وبمعنى التفاخر:

هذا وقد تصدَّى القرآنُ المجيد للتشنيعِ على كلا السلوكين في العديد من الآيات:

فمِن ذلك ما ورد في مقام الذمِّ والتحذير لمَن شغله الجمعُ للمال وكنزُه وتخزينُه كما في قوله تعالى: ﴿تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى / وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾(9) يعني أنَّ جهنَّم تدعو إليها مَن أدبرَ عن الهدى وتولَّى عنه واشتغل بجمعِ الأموال وتخزينِها في الأوعية والخزائن، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(10) وقوله تعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ / يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾(11) فهو يجمعُ المال يتوهَّم أنَّ ذلك سيضمَنُ له الخلودَ طويلاً في عافيةٍ من البلاء، وكذلك قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا / وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا / وَبَنِينَ شُهُودًا / وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا / ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾(12) فرغم الثراءِ الذي يَنعَم به ويتقلَّبُ في أفيائه إلا أنَّ جشعَه ونهمَه لا ينقطع، فهو يطمعُ أبداً في المزيد. ويقولُ تعالى مُستنكِراً على المترَفين: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ / وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾(13) فهم يبنون ويشيِّدون لا لغايةٍ عقلائيةٍ راجحة وإنَّما هو للعبث والترفِ واللَّعبِ ويتَّخذونَ لأنفسِهم المصانع أي الحصونَ والقصورَ المشيَّدة وأسبابَ الرفاه وكأنَّهم مخلَّدون في هذه الأرض.

ومِن الآيات التي تصدَّت للتشنيع والذمِّ لمَن يُفاخر ويتباهى بما صار في يدِه من أموالٍ ومن أسباب القوَّة والمنَعة قوله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا / وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا / وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾(14) فالتباهي والاعتزازُ بما صار في يدِه من أسبابِ القوِّة أذهلَه عمَّا يلزمُه من حقوق، فأضاعَ بذلك نفسَه وظلمها متوهِّماً أنَّه بذلك يرعاها، وتمادَى في غفلتِه حتى صار يعتقدُ أو يظنُّ عمليَّاً أنَّ الساعةَ لن تقومَ، وأنَّه ليس ثمة حسابٌ وثوابٌ وعقاب. 

ويقولُ الله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ .. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾(15) يعني أنَّه خرج عليهم متبختراً يتباهي بما عندَه من أسباب النعيم.

دائرة التكاثر الذي تُحذِّر منه السورة:

وهنا لابدَّ من الالتفات إلى أمرين:

الأول: أنَّ التباهي لا تنحصرُ صورُه بالتفاخر اللَّفظي، فأنْ يتبخترَ الإنسانُ في مشيته أو بلباسه ومركبه وأدوات الزينة والرفاه أو يتعالى على الناس ويستكبر فذلك من التكاثر والتفاخر المنبوذ، لذلك تصدَّت بعضُ الآيات للتحذير من هذا السلوك الممقوت كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾(16) وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(17) فالتبخترُ والتفاخرُ والخُيَلاء وتوهُّم التميُّز خُلُقٌ ذميمٌ ممقوتٌ لله جلَّ وعلا.

والثاني: إنَّ التكاثرَ والتباهي الممقوت الذي عنتْه السورةُ المباركة -ظاهراً- لا يختصُّ بالثراء أو الأولاد أو القوَّة البدنيَّة أو بالحسَبِ والنسب، فالتباهي بمثل العلم والمعرفة يُعدُّ من التكاثرِ الممقوت، وكذلك هو التباهي بالجاه أو المنصب والمسئوليَّات الاجتماعيَّة، وكذلك هو التباهي ببعض الملَكات أو المُنجزات أو ببعض النجاحات في شأنٍ من الشؤون، فكلُّ ذلك وشبهِه يُعدُّ من التكاثر الذي تصدَّتِ السورةُ المباركة للتشنيع عليه والتحذيرِ منه، وأفادت أنَّه يُلهي الإنسانَ ويصرفُه عن الغاياتِ السامية التي ينبغي للمؤمنِ العاقلِ أنْ يصرفَ اهتمامه وجهدَه في سبيل تحصيلِها.

لذلك عدَّت الرواياتُ الشريفة التكاثرَ والفخرَ والتباهي من الحماقة، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: "لا حُمقَ أعظمُ من الفخر"(18) فالعاقلُ لا يجدُ في نفسِه ما يستحقُّ الفخرَ والتباهي، ولهذا لا ينقضي العجبُ من المتبجِّحِ الفخور بنفِسه أو بمنجزاته أو بما في يدِه، يقولُ أبو جعفرٍ الباقر (ع) فيما أُثِر عنه: "عَجَباً لِلْمُخْتَالِ الْفَخُورِ وإِنَّمَا خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يَعُودُ جِيفَةً وهُوَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَدْرِي مَا يُصْنَعُ بِه"(19) ورُويَ عن الإمام زين العابدينَ (ع) أنَّه قال: "عَجَباً لِلْمُتَكَبِّرِ الْفَخُورِ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ نُطْفَةً ثُمَّ هُوَ غَداً جِيفَةٌ"(20) ف"ما لابنِ آدمَ والفخر! -كما عن أمير المؤمنين (ع)- أولُه نطفةٌ، وآخرُه جِيفة، ولا يَرزِقُ نفسَه، ولا يدفعُ حتفَه"(21).

التفاخرُ غالباً ما يُنتج نقيضَ الغرَض:

ثم إنَّ التفاخر والتباهي غالباً ما يُنتج نقيضَ الغرض، فحين يتفاخرُ الإنسانُ بملكاتِه -مثلاً- أو يتفاخرُ بمُنجزاته فإنَّه يبتغي من ذلك اكتسابَ الإكبار والتعظيم في نفس المخاطَب، فهو يطمحُ مِن تفاخره بمُنجزاتِه أو ملكاتِه أن يُعلي المخاطَبُ من شأنِه ويُصبحُ كبيراً في نفسِه إلا أنَّ الذي يقعُ في نفس المخاطَب هو ازدراءُ هذا المتفاخِر ومقتُه والنفورُ منه، ولعلَّ ذلك هو معنى ما أُثر عن أميرِ المؤمنين(ع) أنَّه قال: "أقبحُ الصدقِ ثناءُ الرجل على نفسِه"(22) فثناءُ الرجل على نفسِه حتى مع فرضِ الصدق قبيحٌ لأنَّه مستهجَنٌ لدى الأسوياء، ويبعثُ على اشمئزاز المخاطَب، لأنَّه يُوحي في نفس المخاطَب أنَّ هذا المتفاخِرَ مُبتلى بالكِبر وداءِ العظمة ومعجبٌ بنفسه ومعتدٌّ بذاتِه، والمتكبِّر المعجبُ بنفسه ممقوتٌ لدى العقلاء، ولعلَّ منشأ قبحِ الثناء على النفس هو أنَّه يُعمِّق في النفسِ الشعورَ بالتميُّز والاستعلاءِ وهو ما يُفضي في المآل إلى مكابرة الحقِّ وعدم التراجع عن الخطأ والإصرار على الموقف أو الرأي حتى مع تبيُّنِ فسادِه أو ضلاله وبذلك يُوبق الإنسانُ نفسَه ويُهلكها، ولعلَّ ذلك هو معنى ما أُثر عن أمير المؤمنين (ع) أنَّه قال: "من مدحَ نفسَه فقد ذبحَها"(23) وهو أحدُ مناشئ النهي في القرآن المجيد عن تزكية النفس كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(24).

اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمد، واغفِرْ لعبادِك المؤمنين.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(25).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

1 من ذي القعدة 1445هـ - الموافق 10 مايو 2024م

جامع الإمام الصّادق (عليه السلام) - الدّراز


1- سورة التكاثر / 1-4.

2- سورة التوبة / 19.

3- سورة البقرة / 140.

4- سورة النازعات / 27.

5- سورة الكهف / 34.

6- سورة الحديد / 20.

7- سورة السجدة / 16.

8- نهج البلاغة -خطب الإمام علي- ص338.

9- سورة المعارج / 17-18.

10- سورة التوبة / 34.

11- سورة الهمزة / 2-3.

12- سورة المدثر / 11-15.

13- سورة الشعراء / 128-129.

14- سورة الكهف / 34-36.

15- سورة القصص / 76-79.

16- سورة الإسراء / 37.

17- سورة لقمان / 18.

18- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص537.

19- الكافي -الكليني- ج2/ 329.

20- الكافي -الكليني- ج2/ 328.

21- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ص555.

22- مستدرك نهج البلاغة -الشيخ هادي كاشف الغطاء- ص179.

23- عيون الحكم والمواعظ -الليثي- ص425.

24- سورة النجم / 32.

25- سورة العصر / 1-3.