شهادة أهل الكتاب على وصيَّة المسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ﴾(1).
ما هي حدود قبول شهادة غير المسلم في حق المسلم بمقتضى الآية المباركة؟
الجواب:
عدم قبول شهادة غير المسلم على المسلم:
المورد الذي تُقبل فيه شهادة غير المسلم على المسلم -بحسب الآية المباركة- هو الوصيَّة، وفيما عداه من الموارد لا تكون شهادة غير المسلم على المسلم نافذة كما نصَّت على ذلك الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) كصحيحة أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ، ولَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ"(2).
ثم إنَّ المراد من غير المسلم الذي تُقبل شهادته على المسلم في الوصيَّة هو الكتابي، وأمَّا غير الكتابي من سائر الملل فلا تقبل شهادتُه على المسلم حتى في الوصيَّة، فالمراد من قوله تعالى: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ هم أهل الكتاب خاصَّة بحسب ما أفادته الروايات كصحيحة أحمد بن عمر، قال: سألتُه عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قال: "اللَّذان منكم مسلمان، واللَّذان من غيركم من أهل الكتاب، فإنَّ لم يجد من أهل الكتاب فمِن المجوس، لأنَّ رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وآله وسلم) قال: سنّوا بهم سنّةَ أهل الكتاب، وذلك إذا مات الرجل بأرضِ غربةٍ فلم يجد مسلمَين يُشهدهما فرَجلان من أهل الكتاب"(3).
فالرواية شديدة الوضوح في أنَّ مراد الآية من غير المسلم هم خصوص أهل الكتاب والملحقون بهم وهم المجوس، لقول رسول الله (ص) "سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب" وعليه يتعيَّن رفعُ اليد عمَّا يظهر بدواً من إطلاق الآية.
ثم إنَّ هنا عدداً من المباحث يتبيَّن منها حدود المسألة موضوعاً وحكماً:
نفوذ الشهادة لا يختصُّ بالوصيَّة الماليَّة:
الأول: هل يختصُّ الحكم بنفوذ شهادة الكتابي على المسلم في الوصية بما إذا كانت الوصيَّة بالمال أو أنَّ شهادته نافذة حتى في الوصيَّة بالولاية كما لو شهد على المسلم أنَّه قد أوصى بجعل الولاية على وصيته لولده الأكبر أو شهد بأنَّه جعل فلاناً قيِّماً على القاصرين من أبنائه، فهل تنفذ شهادة الكتابي على ذلك؟
ذهب عددٌ من الفقهاء -كما أفاد النراقي في المستند-(4) إلى أنَّ الحكم بنفوذ شهادة الكتابي على المسلم يختصُّ بالوصيَّة بالمال، وأما الوصيَّة بالوصاية فلا تنفذ شهادة الكتابي عليها، فذلك هو مقتضى الوقوف فيما خالف الأصل على القدر المتيقن.
وأجاب السيد الخوئي(5) عن ذلك أنَّ مقتضى إطلاقات نفوذ شهادة الكتابي في الوصيَّة هو الشمول للوصية بالولاية، فليس في الروايات ما يقتضي اختصاص النفوذ بالوصيَّة الماليَّة، فالروايات أطلقت الحكم بنفوذ شهادة الكتابي في الوصيَّة دون أن تتصدَّى لتخصيصه بما إذا كان متعلَّق الوصيَّة هو المال.
وما قد يقال من أنَّ اختصاص النفوذ بالوصيَّة الماليَّة يمكن استفادته من مثل صحيحة ضُرَيْسٍ الْكُنَاسِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ هَلْ تَجُوزُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيْرُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ لأَنَّه لَا يَصْلُحُ ذَهَابُ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ولَا تَبْطُلُ وَصِيَّتُه"(6) فإنَّ قوله: "لَا يَصْلُحُ ذَهَابُ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ " مشعِرٌ باختصاص نفوذ الشهادة بالوصيَّة الماليَّة.
إلا أنَّ الصحيح هو عدم ظهور الرواية في الاختصاص بل وليس فيها إشعارٌ بذلك، فإنَّ الوصيَّة بالولاية هي كذلك حقٌّ شرعي مجعول للمسلم تماماً كما هي الوصيَّة بالمال. وعليه فكما تنفذ شهادة الكتابي على المسلم في الوصية بالمال كذلك تنفذ في الوصيَّة بالولاية.
اعتبار كون الكتابي ذميَّاً في نفوذ شهادته:
الثاني: هل يُعتبر في نفوذ شهادة الكتابي على المسلم في الوصيَّة أنْ يكون ذميَّاً أو أنَّ شهادته في ذلك نافذة وإن لم يكن ذميَّاً؟
المشهور -ظاهراً- اعتبار كون الكتابي ذميَّاً فما لم يكن كذلك فإنَّ شهادته على المسلم في الوصيَّة لا تكون نافذة، واستُدلَّ على ذلك مضافاً إلى دعوى الإجماع (7) بروايتين:
الأولى: صحيحة الحلبي، قال: سألتُ أبا عبد اللَّه (عليه السلام): هل تجوز شهادة أهل الذمّة على غير أهل ملَّتهم؟ قال: نعم، إنْ لم يُوجد من أهل ملَّتهم جازت شهادةُ غيرهم، إنّه لا يصلحُ ذهابُ حقِّ أحد"(8).
إلا أنَّ هذه الرواية متصدية لبيان حكم شهادة مطلق أهل الملل على غير أهل ملَّتِهم في الوصية وغيرها، فأفادت أنَّه تصحُّ شهادتهم على غير أهل ملَّتهم إذا لم يُوجد مَن يشهد عليهم من أهل ملَّتهم، فهي أجنبيَّة عن محلِّ البحث، إذ لا ريب في عدم صحَّة شهادة غير المسلم على المسلم حتى مع عدم وجود غير المسلم إلا في الوصية إذا كان الشاهد من أهل الكتاب، فهذه قرينة أنَّ الرواية ليست بصدد بيان حكم الشهادة على المسلم وإنَّما هي بصدد بيان حكم شهادة أهل الملل على غيرهم من الملل الأخرى غير ملَّة الإسلام.
على أنَّ الرواية ليست ظاهرة في الحصر فأقصى ما تدلُّ عليه هو صحة شهادة أهل الذمَّة على غيرهم دون أن يكون لها دلالة على نفي صحَّة شهادة غير أهل الذمَّة من أهل الكتاب وغيرهم. فالرواية غير صالحة لنفي صحَّة شهادة أهل الكتاب من غير الذميين على المسلم في الوصيَّة.
الثانية: معتبرة حمزة بن حمران عن أبي عبد اللَّه (عليه السلام)، قال: سألتُه عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قال: فقال: اللَّذان منكم مسلمان والَّلذان من غيركم من أهل الكتاب، فقال: إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يُشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمَين فليشهِدْ على وصيّته رجلين ذمّيّين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما"(9).
وهذه الرواية ظاهرة في تقييد الرجلين من أهل الكتاب بالذميين، ولهذا يتعيَّن البناء على تقييد ما دلَّ على نفوذ شهادة أهل الكتاب في الوصيَّة بكونهم من أهل الذمَّة.
اختصاص النفوذ بفرض وقوع الوصيَّة في الغربة:
الثالث: هل يختصُّ الحكم بنفوذ شهادة الكتابي في الوصيَّة بفرض وقوع الوصيَّة في أرض غربة أو يكفي في الحكم بنفوذ شهادة الكتابيِّ أنْ لا يجد المسلمُ حين الوصيَّة من يُشهدُه من المسلمين وإنْ لم يكن ذلك في الغربة؟
أفاد صاحبُ الجواهر(10) أنَّ المتأخِّرين وظاهر أكثر القدماء عدم اختصاص الحكم بالنفوذ بما إذا كان الموصِي في دارِ غربة، وفي مقابل ذلك نُسب إلى الإسكافي والحلبي صريحاً والشيخ في المبسوط وابن زهرة الغنية ظاهراً البناء على اشتراط النفوذ بما إذا كان الموصِي في دار غربة.
ويُمكن الاستدلال لدعوى الاشتراط بمعتبرة حمزة بن حمران والتي ورد فيها: "إذا مات الرجلُ المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يُشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمَين فليُشهدْ على وصيّته رجلين ذمّيّين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما" فإنَّه قد أخذ في موضوع صحَّة الإشهاد والحكم بالنفوذ كون الموصي المسلم بأرض غربة.
وكذلك يُمكن الاستدلال بصحيحة أحمد بن عمر المتقدِّمة والتي اشتملت على قوله (ع): "وذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمَين يُشهدهما فرَجلان من أهل الكتاب" فإنَّ مفروض الحكم بنفوذ شهادة الكتابي هو موت الرجل بأرض غربة.
وكذلك يُمكن الاستدلال بصحيحة هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قَالَ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِ غُرْبَةٍ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُسْلِمٌ جَازَتْ شَهَادَةُ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ عَلَى الْوَصِيَّةِ"(11)
فالحكم بجواز شهادة غير المسلم في الوصيَّة جاء مقيَّداً بما إذا كان الرجل في أرض غربة، وبذلك يتعيَّن تقييد ما يظهر منه الإطلاق من هذه الجهة كصحيحة ضريس المتقدِّمة قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) عَنْ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ هَلْ تَجُوزُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ؟ فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي تِلْكَ الْحَالِ غَيْرُهُمْ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ لأَنَّه لَا يَصْلُحُ ذَهَابُ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ولَا تَبْطُلُ وَصِيَّتُه"
وما يُقال إن التنصيص في الروايات وكذلك الآية على افتراض وقوع الشهادة في أرض غربة إنَّما ورد مورد الغالب، ولهذا لا يكون ذلك صالحاً لتقييد ما دلَّ على نفوذ وصيَّة الكتابي في حال عدم وجدان المسلم
وجوابه أنَّ ذلك خلاف الظاهر، ومجرد احتمال وروده مورد الغالب لا يُصحِّح رفع اليد عن ظهور الروايات في التقييد بكون الوصيَّة قد وقعت في دار غربة.
وأمَّا استظهار عدم إرادة التقييد بقرينة التعليل الوارد في مثل صحيحة ضريس وهو قوله (ع): "لأَنَّه لَا يَصْلُحُ ذَهَابُ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ولَا تَبْطُلُ وَصِيَّتُه" فإنَّ مثل هذا التعليل صالحٌ لاستظهار عدم اختصاص نفوذ وصيَّة الكتابي بوقوع الاشهاد في دار الغربة فإنَّ العلَّة بذهاب حقِّ المسلم قائمة حتى في فرض عدم وجدان شهود من المسلمين في الحضر، فيقال عند البناء على عدم نفوذ شهادة الكتابي في هذا الفرض أنَّ حقَّ المسلم في الوصيَّة قد ضاع وذهب باطلاً.
وأجاب السيد الخوئي(12) عن ذلك بأنَّ الإطلاق في التعليل غير مرادٍ قطعاً وإلا لصحَّت شهادة مطلق غير المسلم في الوصيَّة وإن لم يكن كتابياً حتى لا يضيع حقُّ المسلم في الوصية، وكذلك لو كان إطلاق التعليل مراداً لكان ذلك مقتضياً للبناء على صحَّة شهادة غير المسلم في غير الوصية من سائر الحقوق ولا يمكن الالتزام بشيء من ذلك وهو ما يكشف عن أنَّ التعليل إنَّما سيق لبيان الحكمة، ولذلك لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدما، وبه لا يكون ثمة ما يُصحِّح رفع اليد عن ظهور تقييد النفوذ بافتراض وقوع الوصيَّة في دار الغربة.
اشتراط كون الكتابي واجداً للشرائط المعتبرة في الشاهد:
الرابع: هل يشترط في قبول شهادة الكتابي على المسلم في الوصيَّة أن يكون الكتابي واجداً للشرائط المعتبرة في قبول شهادته على أهل ملَّته -كالأمانة وحسن السيرة- أو أنَّه يصحُّ اعتماد شهادته على المسلم في الوصيَّة وإنْ لم يكن واجداً للشرائط المعتبرة في قبول شهادتِه على أهل ملَّته؟
الظاهر هو اشتراط ذلك، فإنَّ ما دلَّ من الروايات وكذلك الآية على قبول شهادة الكتابي على المسلم في الوصيَّة ناظر إلى إلغاء شرط الإسلام فيبقى ما عداه من الشرائط معتبراً في الشاهد بمقتضى أدلَّتها، ويُؤيد ذلك بل يدلُّ عليه ما ورد في معتبرة حمزة بن حمران عن أبي عبد الله (ع) قال: "إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمَين يشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمَين فليُشهِدْ على وصيّته رجلين ذمّيّين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما".
اشتراط عدم وجدان من يصلح للشهادة من المسلمين:
الخامس: هل المعتبر في قبول شهادة الكتابي على المسلم في الوصيَّة هو عدم وجود شاهدين من المسلمين مطلقاً وإن كانا فاسقين أو أنَّ المعتبر هو عدم وجود شاهدَين عادلين؟
اختلف الفقهاءُ في ذلك -كما أفاد صاحب المستند(13)- ومنشأ القول باعتبار عدم وجود شاهدين من المسلمين مطلقاً هو أنَّ عدداً من الروايات قيَّدت الحكم بنفوذ شهادة الكتابي بعدم الوجدان للمسلم كصحيحة أحمد بن عمر، وصحيحة الحلبي، وصحيحة ضريس، ومعتبرة حمزة بن حمران إلا أنَّ الظاهر من هذه الروايات هو التقييد بعدم وجدان مسلمين يصلحان للشهادة، وليس التقييد بعدم وجدان مسلمَين مطلقاً وإنْ كانا فاسقين أو فاقدين للقدرة على الشهادة كما لو كانا أصمَّيين لا يمكنهما تحمُّل الشهادة.
ويُمكن تأييد ذلك بالتعليل الوارد في بعض الروايات من أنَّ علَّة قبول شهادة الكتابي عند عدم المسلم هو الحفظ لحقِّ المسلم في الوصيَّة لكي لا يضيع، ومن الواضح أنَّ وجود المسلمَين الفاسقين أو الأصمَين كعدمه وذلك لعدم قبول شهادتهما فيضيع حقُّ المسلم في الوصية، وهذا التعليل وإنْ لم يكن علة تامَّة في قبول شهادة الكتابي ولكنَّه يصلح قرينةً على استظهار عدم إرادة التقييد بعدم وجود المسلم مطلقاً ولا أقلَّ من منعه لظهور الروايات في أنَّ المعتبر في نفوذ شهادة الكتابي هو عدم الوجدان للمسلمين مطلقاً، ويؤكد ذلك أنَّ الآية المباركة قيَّدت القبول بشهادة الكتابي بعدم الوجدان لشاهدين عادلين من المسلمين قال تعالى: ﴿اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ فالمناط بمقتضى الآية لقبول شهادة الكتابي هو عدم الوجدان لشاهدين عادلين من المسلمين، وبه تكون الآية صالحة لبيان المراد من عدم الوجدان للمسلم الوارد في الروايات.
وممَّا ذكرناه يتَّضح أيضاً صحَّة شهادة الكتابي لو لم يجد المسلم سوى شاهدٍ واحد من المسلمين يصلح للشهادة، إذ أنَّ المانع من قبول شهادة الكتابي هو عدم وجود شاهدين من المسلمين يصلحان للشهادة.
وهل يصحُّ اعتماد شاهدٍ عادلٍ من المسلمين مع شاهدٍ من أهل الكتاب إذا لم نجد سوى شاهدٍ واحد من المسلمين يصلحُ للشهادة؟
الظاهر هو الصحَّة -كما أفاد السيد الخوئي(14)- وذلك لصحَّة اعتماد شاهدين من أهل الكتاب في هذا الفرض بمقتضى الآية فيكون اعتماد شاهدٍ عادلٍ من المسلمين مع شاهدٍ صالح من أهل الكتاب أولى بالقبول، لاستبعاد أن تكون شهادة المسلم العدل أقلَّ من شهادة الكتابي، فإذا صحَّت -في فرض عدم وجود شاهدين من المسلمين- شهادة كتابي إذا انضمت إليها شهادة كتابي آخر فإنَّه تصحُّ بالأولوية القطعية شهادة كتابي إذا انضمت إليها شهادة مسلم عدل. إذ لا تكون شهادة الكتابي الآخر أولى بالقبول من شهادة المسلم العدل.
هل يعتبر الحلف في قبول شهادة الكتابي:
السادس: هل يُعتبر في قبول شهادة الشاهدين من أهل الكتاب أنْ يحلفا على ما يَشهدان عليه؟
ذهب بعض الأعلام لذلك مستنداً إلى ما أفادته الآية وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ﴾(15).
إلا أنَّ الظاهر من الآية المباركة هو أنَّهما يؤمران بالحلف في فرض الارتياب وليس مطلقاً. ففيما عدا هذا الفرض يكون المرجع هو إطلاقات ما دلَّ على نفوذ شهادة الشاهدين من أهل الكتاب في الوصيَّة عند عدم الوجدان للشاهدين العادلين من المسلمين.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
12 / جمادى الأولى / 1446ه
15 / نوفمبر / 2024م
1- سورة المائدة / 106.
2- الكافي -الكليني- ج7 / ص398، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج27 / ص386.
3- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج27 / ص390.
4- مستند الشيعة- النراقي- ج18 / ص46.
5- مباني تكملة المنهاج- السيد الخوئي- ج41 / ص100.
6- الكافي -الكليني- ج7 / ص399، وسائل الشيعة- الحر العاملي- ج19 / ص309.
7- جواهر الكلام- الشيخ حسن النجفي- ج28 / ص347.
8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج19 / ص310.
9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج19 / ص312.
10- جواهر الكلام- الشيخ حسن النجفي- ج41 / ص20.
11- الكافي- الكليني- ج7 / ص398، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج19 / ص310.
12- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص102، 103.
13- مستند الشيعة- النراقي- ج18 / ص39.
14- مباني تكملة المنهاج -السيد الخوئي- ج41 / ص104.
15- سورة المائدة / 106.