معنى قوله تعالى: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
ما معنى: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ في قوله تعالى من سورة هود: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾(1).
الجواب:
بعد أنَّ قصَّ اللهُ تعالى -في الآيات التي سبقت هذه الآية- طرفاً من أخبار الأمم الغابرة كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وبني إسرائيل، بعد أنْ قصَّ طرفاً من أخبار هذه الأمم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ أي تلك بعض أخبار الأمم الغابرة، فكلمة "مِن" تبعيضيَّة مفادها أنَّ ما قصصناه عليك هو بعض أخباهم، إذ ليست الغاية من حكايتها هو الاستيعاب لجميع ما وقع لهم بل الغاية من ذلك هو اختيار ما يُسهم في الهداية ويُعطي البصيرة بأحوال الأمم وتجاربها والتعريف بالسنن التأريخيَّة التي اقتضتها العناية الإلهية، ولعلَّه لذلك عبَّرت الآية الشريفة عن الأخبار التي قصَّتها الآيات السابقة بالأنباء، إذ أنَّ النبأ يُطلق على الخبر ذي الخطر والأهميَّة.
معنى قائم وحصيد:
وأمَّا قوله تعالى: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ فمعناه أنَّ القرى التي قصصنا عليك -يا رسول الله (ص)- طرفاً من أنباء أهلها بعضها ما زالت أثار أبنيتها قائمة ومشهودة للعيان، وبعضها خربت واندثرت وعفى عليها الدهر. فالتي قد اندثرت فلم تعُدْ مشهودة للعيان هي مثل قرى قوم نوحٍ وهودٍ وصالح، وأمَّا التي بقيَ شيءٌ من آثارها وأطلالها في زمن الرسول الكريم (ص) فهي مثل قرى قوم لوط كما يُشير لذلك قولُه تعالى من سورة العنكبوت: ﴿وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(2) وقوله تعالى من سورة الصافات: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾(3).
ثم إنَّ التعبير عن القرى التي بقي شيءٌ من آثارها وأبنيتها والقرى المندثرة بالقائم والحصيد سِيق لغرض التشبيه لها بالزروع التي منها ما هو قائمٌ على سُوقِه ومشهودٌ، ومنها ما تمَّ حصدُه واستئصاله، فمفاد الآية هو أنَّ تلك القرى منها كالزروع القائمة، ومنها كالزروع المحصودة، وهذا النحو من التشبيه هو من قسم الاستعارة المكنيَّة التي يُحذفُ فيها المشبَّه به ويُؤتى بشيءٍ من لوازمه للدلالة عليه، فالمشبَّهُ به في الآية هي الزروع حُذفت وجيء بشيءٍ من لوازمها وهو الحصد والقيام، فإنَّ الحصد من شؤون الزروع كما قال تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾(4) وكذلك فإنَّ القيام المقابل للحصد من شؤون الزروع كما قال تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾(5) واللِّينة هي النخلة.
احتمالٌ آخر لمفاد الآية الشريفة:
وثمة احتمالٌ آخر لمفاد الآية الشريفة وهو أنَّ أهل هذه القرى منهم مَن تمَّ استئصالهم عن آخرهم كقوم لوط حيث لم يبقَ منهم من أحدٍ سوى نبيِّ الله لوط (ع) وأهله، ونبيُّ الله لوط (ع) لم يكن من القوم الذين بُعث فيهم، فعامَّة أفراد قوم لوط قد تمَّ حصدُهم واستئصالهم كما قال تعالى: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ / إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ / ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ﴾(6).
وثمة مِن أهل تلك القرى التي قصَّت الآياتُ طرفاً من أنبائها مَن لم يتم استئصالُهم عن آخرهم بل بقيت منهم بقيةٌ تناسلت وامتدَّت أعقابها في الأجيال، وهؤلاء مثل قوم نوح (ع) كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾(8).
وكذلك مثل قوم ثمود وهم قوم صالح فإنَّه لم يتم استئصالُهم عن آخرهم كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ / وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾(9).
وعليه فبناءً على هذا الاحتمال يكون قوله تعالى: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ وصفاً لأهل القرى وليس لأبنيتها وأطلالها وآثارها، فأهلُ تلك القرى منهم قائمٌ، ومنهم حصيد يعني منهم من لا زالت أعقابهم وذراريهم قائمة، ومنهم من تمَّ حصدهم وإبادتهم عن آخرهم، فلم يبق منهم من أحدٍ على جديد الأرض، فالمشبَّه في الآية -بناءً على هذا الاحتمال- هم الأقوام والأمم الغابرة، والمشبَّه به هي الزروع، فالأقوام والأمم التي بقيت بعضُ ذراريها شُبِّهت بالزروع القامة النامية، والأقوام والأمم التي أُبيدت عن آخرها شبِّهت بالزروع المحصودة التي تمَّ اجتثاثها من أصولها وجذورها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1 / جمادى الآخرة / 1446ه
3 / ديسمبر / 2024م
1- سورة هود / 100.
2- سورة العنكبوت / 35.
3- سورة الصافات / 137.
4- سورة ق / 9.
5- سورة الحشر / 5.
6- سورة الشعراء / 170-172,
7- سورة هود / 48.
8- سورة الاسراء / 3.
9- سورة هود / 66-67.