معنى قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ .. يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾(1) ما المراد من المعقِّبات؟ ومن هو المقصود في قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾؟ وكيف يحفظونه من أمر الله تعالى والذي لا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه؟

الجواب:

الآية متَّصلة بالتي قبلها وهي قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾(2) فهذه الآية تُشير إلى أنَّ الله تعالى مطَّلع على الإنسان في مختلف أحواله، فهو جلَّ وعلا مطَّلع عليه سواءً أسرَّ قولَه وأخفاه أو جهر به، ومطَّلعٌ عليه حين يكون مستتراً بالليل، وحين يسعى لشؤونه في النهار، ثم قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ .. يَحْفَظُونَهُ﴾ فالضمائر في "له" "ومِن بين يديه" "ومِن خلفه" و"يحفظونه" ترجع على ﴿مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ..﴾ يعني ترجعُ على الإنسان، فهذا الإنسان قي مختلف أحواله له معقِّبات يحفظونه.

معنى المعقبات ومنشأ الوصف:

والمراد من المعقِّبات -بحسب مشهور المفسرين- هم الملائكة التي تعتقب في حفظ الإنسان أي يتناوبون على ذلك، فيكون منهم ملائكة في الليل ثم يخلفهم ملائكة في النهار، فملائكة النهار يأتون في عقب ملائكة الليل أي أنَّ بعضهم يعقب بعضاً، وذلك هو منشأ وصفهم بالمعقِّبات، وهو جمع معقِّبة من عقَّبه إذا جاء على عقبه أي بعده وفي أثره فحلَّ في محلِّه بدلاً عنه، فالمعقِّبة هم الجماعة التي تأتي في عقب الأخرى والمعقِّبات هم الجماعات المتعاقبة جماعة في عقب جماعة.

وثمة قولٌ آخر هو أنَّ الموصوفين بالمعقِّبات هم ملائكة التدوين الذين يُحصون على الإنسان أقوالَه وأفعالَه فيدونونها، ومنشأ وصفهم بالمعقِّبات هو أنَّهم يتعقبون أقوال الإنسان وأفعاله فيدونونها كما أشار لذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ / مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾(3) وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ / كِرَامًا كَاتِبِينَ / يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾(4) فهم يحفظون على الإنسان قوله وفعله في مدوَّنات للاحتجاج عليه بها يوم الحساب كما أشار لذلك قوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾(5) وكذلك قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا / اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾(6).

فالمعقِّبات -بناءً على هذا القول- هم ملائكة التدوين إلا أنَّ الظاهر من الآية أنَّ المعقِّبات ملائكة آخرون غير ملائكة التدوين، بقرينة قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ أي أنَّهم يحفظون شخص الإنسان وليس أفعاله وأقواله كما هو شأن ملائكة التدوين، فالمستظهَر من قوله: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه هو أنَّهم يحفظونه من الآفات والمهالك، فالمعقِّبات -ظاهرا- هم الملائكة الموكلون بحفظ الإنسان من الأسواء والآفات، فمعنى قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ﴾ هو أنَّ لكلِّ إنسان ملائكة موكَّلون من قِبَل الله تعالى يتعاقبون ليل نهار على حفظه وحراسته، فإذا جاء المقدَّر خلوا بينه وبينه، ولعلَّ هؤلاء الملائكة هم المقصودون من الحفَظة في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾(7).

هذا وقد نصَّت بعضُ الروايات على أنَّ المراد من المعقِّبات هم الملائكة الموكَّلون بحفظ الإنسان:

 منها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ قال: بأمر الله، ثم قال: ما من عبد الا ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الامر من عند الله خليا بينه وبين أمر الله"(8).

ومنها: رواية أبى الجارود عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ يقول: بأمر الله من أن يقع في ركي -بئر- أو يقع عليه حائط أو يُصيبه شيء حتى إذا جاء القدر خلُّوا بينه وبينهم يدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل، وملكان بالنهار يتعاقبانه"(9).

ومنها: ما أورده الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن الإمام عليٍّ أمير المؤمنين (ع) ".. كفى بالأجل حارسا، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائطا أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه .."(10) فهذه الرواية وإن لم تنص على أنَّ ذلك هو مفاد الآية ولكنها تصلح للتأييد لتقارب مضمونها مع مضمون الروايتين المتصديتين لبيان مفاد الآية.

هذا وقد أفاد الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان أن المروي عن أمير المؤمنين (ع) في بيان معنى الآية هو أن المعقِّبات هم ملائكة يحفظونه -الإنسان- من المهالك، حتى ينتهوا به إلى المقادير، فيحيلون بينه وبين المقادير"(11).

معنى الحفظ من أمر الله:

وأمَّا معنى قوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ فهو -كما أفادت الروايات المذكورة- أنَّهم يحفظونه بأمر الله تعالى، فحرف الجرِّ "مِن" جاء بمعنى الباء، كما يقال: جئتُ من أمرك أي بأمرك، وقُتل زيد من أمرك أي بأمرك. وقريب من ذلك ما قيل إنَّ المراد من قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ هو أنَّهم يحفظونه من أجل أمر الله تعالى

وثمة توجيهات أخرى ذكرها المفسِّرون أهمها:

التوجيه الأول: أنَّ في جملة: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ إضماراً، والتقدير يحفظونه ذلك الحفظ من أمر الله، فقوله: من أمر الله في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره ذلك الحفظ، وإنَّما تمَّ حذفُه لدلالة "يحفظونه" عليه. فمفاد الفقرة بناء على ذلك هو أنَّهم يحفظونه وحفظهم إياه من أمر الله أي ممَّا أمرهم اللهُ به,

والتوجيه الثاني: أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير هو: له معقِّبات مِن أمر الله يحفظونه، فتكون فقرة "من أمر الله" صفة لمعقِّبات أي له معقبات صفتها أنَّها من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الشرور والآفات.

التوجيه الثالث: أنَّ مِن في قوله: ﴿مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ بمعنى "عن" فيكون مفاد الآية أنَّهم يحفظون الإنسان وهذا الحفظ صادر عن أمر الله وإذنه وتمكينه.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

6 / شوال / 1446ه

5 / أبريل / 2025م

 


1- سورة الرعد / 11.

2- سورة الرعد / 10.

3- سورة ق / 17-18.

4- سورة الإنفطار / 10-12.

5- سورة الكهف / 49.

6- سورة الإسراء / 13-14.

7- سورة الأنعام / 61.

8- تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج2 / ص205.

9- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج1 / ص360.

10- التوحيد -الشيخ الصدوق- ص367.

11- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج6 / ص19.