المقام المحمود للنبيِّ الكريم (ص)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ما معنى قوله تعالى من سورة الإسراء: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(1) وما هو هذا المقام المحمود الذي عنته الآية المباركة؟

الجواب:

الخطاب في الفقرة المذكورة من الآية المباركة موجَّهٌ للنبيِّ محمد والرسول الأعظم (ص) ومفادُها البشرى بأنَّ له مِن الله تعالى يوم القيامة المقامَ المحمود الذي سيحمَدُه عليه كافَّة الخلائق، ولن يحظى بمثلِه أحدٌ من الأوليين والآخرين وهو مقام الشفاعة العظمى.

فكلمة "عسى" من أفعال الرجاء وهي من الله تعني الوعد المُلازم لحتمية الوقوع، وكلمة "مقاماً" مصدرٌ ميمي أو قل مفعولٌ مطلق للفعل يبعثُك من غير جنسه أي من غير لفظه، فيكون المعنى يبعثُك مبعثاً أنت محمود فيه، أو أنَّ " مقاماً مفعولٌ مطلق للفعل يبعثُك لتضمينه معنى يُقيمُك، فمعنى يبعثك مقاماً هو يقيمك مقاماً و "محموداً" صفة للمقام، وقد يكون " مقاما" مفعول مطلق لفعلٍ محذوفٍ والتقديرُ يبعثك فيُقيمك مقاماً محموداً.

ويجوز انتصاب "مقاماً على الحال من المخاطَب (ص) فيكون المعنى يبعثُك ذا مقامٍ محمود أي وأنت ذا مقامٍ محمود أو حال كونِك ذا مقامٍ محمود.

الإجماع على أنَّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى:

ثم إنَّ وصف المقام بالمحمود دون تقييد فيه دلالةٌ على أنَّ هذا المقام سوف يحمدُه ويستحسنُه ويغبطُه عليه جميع الخلائق، وقد اتَّفقت الكلمة -إلا ممَّن شذَّ- على أنَّ مراد الآية المباركة مِن المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى كما أفاد ذلك الشيخ الطبرسي رحمه الله قال: "وقد أجمع المفسِّرون على أنَّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة، وهو المقام الذي يشفع فيه للناس، وهو المقام الذي يُعطى فيه لواءُ الحمد، فيوضع في كفِّه ، ويجتمع تحتَه الأنبياءُ والملائكة، فيكون صلَّى الله عليه وآله وسلم أولَ شافعٍ، وأول مشفَّعٍ"(2)

ويقول العلامة الحلي رحمه الله في كشف المرادفي شرح تجريد الاعتقاد :"اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبيِّ صلِّى الله عليه وآله، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}(3)

وقد استفاضت الروايات في ذلك عن الرسول الكريم (ص) وأهل بيته (ع)

فمنها: ما رواه العياشي في تفسيره عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم ( عليه السلام ) في قول الله : {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} قال: يقوم الناسُ يوم القيامة مقدار أربعين عاماً ... فيأتون آدم (عليه السلام) فيتشفَّعون منه، فيدلّهم على نوحٍ (عليه السلام) ويدلُّهم نوحٌ على إبراهيم، ويدلُّهم إبراهيم (عليه السلام) على موسى، ويدلُّهم موسى (عليه السلام) على عيسى (عليه السلام) ويدلُّهم عيسى على محمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فيقول : عليكم بمحمَّدٍ خاتم النبيين فيقول محمد (صلى الله عليه وآله): أنا لها فينطلقُ حتى يأتي باب الجنة.. فخر ساجدا، فلا يرفع رأسه حتى يقال له : تكلَّم، وسل تُعط ، واشفعْ تُشفَّع فيرفع رأسَه فيستقبل ربه فيخر ساجدا ، فيقال له مثلها ، فيرفع رأسه حتى أنَّه ليشفع لمن قد أُحرق بالنار، فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجهُ من محمد ( صلى الله عليه وآله ) وهو قول الله تعالى : {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً}"(4)

ومنها: ما رواه العياشي عن أحد الصادقَين عليهما السلام في قوله: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} قال : هي الشفاعة"(5)

ومنها: ما رواه عليُّ بن إبراهيم القمي في تفسيره بسنده عن سماعة عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: سألتُه عن شفاعة النبيِّ ( صلى الله عليه وآله ) يوم القيامة فقال : يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم ليشفع لنا عند ربنا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون: يا آدم اشفع لنا عند ربك فيقول:.. فعليكم بنوح، فيأتون نوحاً (عليه السلام) فيردهم إلى مَن يليه، فيردّهم كلُّ نبيٍّ إلى مَن يليه حتى ينتهوا إلى عيسى (عليه السلام) فيقول: عليكم بمحمَّدٍ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيعرضون أنفسَهم عليه ويسألونَه، فيقول: انطلقوا فينطلقُ بهم إلى باب الجنة، ويستقبل باب الرحمة، ويخرُّ ساجدا، فيمكث ما شاء الله، فيقول اللهُ : أرفع رأسك، واشفعْ تُشفَّع، واسأل تُعطَ، وذلك قوله:{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً}"(6) .

ومنها: ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسندٍ له قال: قال أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام): سمعتُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) يقول: "إذا حُشر الناس يوم القيامة ناداني منادٍ: يا رسول الله، إنَّ الله جلَّ اسمُه قد أمكنَكَ من مجازاة محبِّيك ومحبِّي أهلِ بيتك، الموالين لهم فيك والمعادين لهم فيك، فكافئهم بما شئت فأقول: يا رب، الجنة فأنادي:فابوؤهم  منها حيثُ شئت، فذلك المقامُ المحمود الذي وُعدتُ به"(7)

ومنها: ما رواه الشيخ في الأمالي بسندٍ له عن أنس بن مالك قال: رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً مقبلاً على علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يتلو هذه الآية: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} فقال: يا علي إنَّ ربي عزَّوجل ملَّكني الشفاعة في أهل التوحيد من أمَُّتي وحظر ذلك عمَّن ناصبَك وناصبَ ولدك من بعدك"(8)

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن خالد القلانسي عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا قمتُ المقام المحمود تشفَّعت في أصحاب الكبائر من أُمَّتي، فيشفِّعني اللهُ فيهم، والله لا تشفَّعتُ فيمن آذى ذريتي"(9)

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) لعليٍّ (عليه السلام): يا عليُّ شيعتُك هم الفائزون يوم القيامة ... يا علي أنا الشفيعُ لشيعتِك غدا إذا قمتُ المقام المحمود فبشِّرهم بذلك.." (10)

 والروايات في ذلك من طرقنا مستفيضة، ولا يسعنا استقصاؤها وكذلك ورد في طرق العامَّة أن المراد من المقام المحمود الذي عنته الآية المباركة هو مقام الشفاعة، فمن ذلك ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي هريرة عن النبي (ص) في قوله:{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} قال: هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتي فيه"(11) وفي سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله (ص) في قوله :{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} وسُئل عنها؟ قال: هي الشفاعة "(12)

فتنة واقتتال بسبب تحديد معنى المقام المحمود:

والجدير بالإشارة في المقام أنَّه وقعت سنة 317ه في بغداد فتنة عظيمة بين الحنابلة وبين غيرهم من أبناء العامَّة قُتل فيها الكثير، وكان سبب هذه الفتنة هو الاختلاف في تحديد ما هو المقام المحمود الذي عنته الآية من سورة الإسراء، فزعم الحنابلة أنَّ المقام المحمود هو أنَّ الله يُقعد أو يُجلِس النبيَّ (ص) معه على عرشه، وقال سائر الناس المقام المحمود هو الشفاعة العظمى. 

أرَّخ لهذه الفتنة ابن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ قال:" وفيها - 317ه- وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين غيرهم من العامَّة ودخل كثير من الجند فيها، وسبب ذلك أنَّ أصحاب المروذي قالوا في تفسير قوله تعالى:{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} هو أن الله سبحانه يقعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معه على العرش وقالت الطائفة الأخرى إنما هو الشفاعة فوقعت الفتنة واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيرة"(13) 

وقال أبو الفداء في المختصر: وفي هذه السنة - 317- وقع بسبب تفسير قوله تعالى:{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} ببغداد فتنةٌ عظيمة بين الحنابلة وغيرهم، ودخل فيها الجند والعامَّة، واقتتلوا فقُتل بينهم قتلى كثيرة فقال أبو بكر المروزي الحنبلي وأصحابه: إِنَّ معنى ذلك أنَّ الله تعالى يُقعد النبيَّ(ص) معه على العرش، وقالت الطائفة الأخرى: إِنَّما هي الشفاعة فاقتتلوا بسبب ذلك"(14)

وأرَّخ لها ابن كثير في البداية والنهاية قال: " وفيها- 317ه- وقعت فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي ، وبين طائفة من العامة ، اختلفوا في تفسير قوله تعالى:{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} فقالت الحنابلة: يُجلسه معه على العرش. وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك، وقُتل بينهم قتلى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد ثبت في صحيح البخاري أنَّ المراد بذلك مقام الشفاعة العظمى"(15)

وكذلك أشار إليها الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام قال:"وهاجت ببغداد فتنةٌ كبرى بسبب قوله :{عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} فقالت الحنابلة: معناه يُقعِده الله على عرشه كما فسَّره مجاهد. وقال غيرُهم من العلماء: بل هي الشفاعة العظمى كما صحَّ في الحديث. ودام الخصام والشتم واقتتلوا، حتى قتل جماعة كبيرة"(16).

أقول: الظاهر أنَّ منشأ النزاع هو أنَّ ما تبنَّاه أصحاب المروذي الحنبلي من أنَّ المقام المحمود هو أنْ الله تعالى يُقعِد نبيَّه (ص) معه على العرش يستلزم التجسيم والتشبيه فكأنَّ العرش سريرُ يجلس عليه الله تعالى تماماً كما يجلس الملوك، فإذا حظيَ أحدٌ عندهم بمقام أجلسوه بجانبهم، ومثل هذا التصوُّر الفاسد مستلزمٌ للتجسيم والتشبيه تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيرا، وكذلك هو مستلزم للتحَّيُّز والكون في مكان، ولو أنَّهم قالوا إنَّ المقام المحمود هو أن يُجلِسَ اللهُ نبيَّه (ص) على العرش بمعنى أنَّه تعالى يُبوؤه في أعلى مرتبةٍ وأشرف منزلة فيكون ما عداه دونه في المقام لكان ذلك مقبولاً، وأمَّا ما زعموه فهو مِن التجسيم والتشبيه وإنْ تمحَّلوا في نفيه فقالوا إنَّه جلوس يليقُ بشأنه!!    

 

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ محمد صنقور

30 من ذي القعدة 1446ه

28 مايو 2025م

------------------------

1- سورة الاسراء: 79.

2- تفسير مجمع البيان- الطبرسي- ج6/ 284.

3- شرح المراد في شرح تجريد الاعتقاد - العلامة الحلِّي- ص 565. 

4- تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي-ج2/ 315.

5- تفسير العياشي- محمد مسعود العياشي-ج2/ 314.

6-تفسير القمي- علي بن إبراهيم القمي- ج2/ 25.

7-الأمالي- الطوسي- ص 298.

8-الأمالي- الطوسي-455.

9-الأمالي- الصدوق-ص 370.

10- الأمالي- الصدوق- ص66.

11-مسند أحمد- أحمد بن حنبل- ج2/ 441.

12- السنن الكبرى – الترمذي- ج4/ 365.

13- الكامل في التأريخ – ابن الأثير-ج8/ 213 . الظاهر أنَّ المقصود هو أنَّ ذلك وقع بين أتباع المروذي وبين غيرهم لأنَّ الواقعة حدثت بعد وفاة المروذي، نعم هي وقعت أيام البربهاري كما قيل وهو من أكثر الحنابلة تشدداً.

14-المختصر في أخبار البشر- أبو الفداء- ج2/ 74.

15-البداية والنهاية- ابن كثير ج11/ 184.

16-تاريخ الإسلام- الذهبي- ج23/ 384