امتناع الرؤية البصريَّة وقوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(1) أليست الآية صريحة في إمكان الرؤية لله جلَّ وعلا ؟
الجواب:
الآية ليست صريحةً بل ولا هي ظاهرة في ذلك، فإنَّ الظهور إنَّما ينعقد حينما لا تكون ثمة قرينة تقتضي خلاف ما يظهر بدْوَاً من الكلام، فمع قيام القرينة ينقلبُ الظهور إلى ما يُناسب مقتضى القرينة أو تكونُ القرينة مقتضيةً إلى إجمال المراد.
فالرؤية البصريَّة الحسيَّة لله جلَّ وعلا ممتنعةٌ امتناع استحالة بمقتضى الأدلَّة والبراهين القطعيَّة، ولهذا يتعيَّن صرفُ كلِّ نصٍّ يظهر منه بدْوَاً إمكان الرؤية، فمثل هذه النصوص محتفَّةٌ دائماً بهذه القرينة وهو ما يمنع من ظهورها في إمكان الرؤية البصريَّة وتعيُّن صرفها إلى معنىً لا يتنافى مع مقتضيات الأدلَّة والبراهين العقليَّة تماماً كما لو قال أحدهم زارني أسدٌ وتحدَّث إليَّ وخطب مني ابنتي فزوَّجته إيَّاها، فإنَّ أحداً لا يفهم من هذا الكلام أنَّ المتكلِّم أراد من الأسد البهيمة المعروفة وما ذلك إلا للعلم بامتناع صدور الكلام والخطبة والزواج من مثل هذه البهيمة، ولهذا تكون هذه القرينة مانعةً من ظهور الكلام في إرادة البهيمة من كلمة الأسد ومقتضية في ذات الوقت لصرف الكلام إلى ما يُناسب مقتضى القرينة، وكذلك لو قيل رأيتُ العقل والحكمة ماثلةً في زيد فإنَّ أحداً لا يفهم من هذا الكلام أنَّه رأى العقل والحكمة رؤية بصيريَّة وذلك لأنَّ العقل والحكمة غير قابلةٍ للرؤية البصريَّة، ولذلك يتعيَّن حملُ الكلام على إرادة الرؤية المعنويَّة أو الرؤيَّة لآثار العقل والحكمة، هذا أولاً .
وثانياً: فإنَّ الآية ومع قطع النظر عن القرينة المذكورة ليست ظاهرة في إرادة الرؤية البصريَّة لله جلَّ وعلا ، فثمة أكثر من احتمالٍ لما هو المراد من الآية الشريفة.
الاحتمال الأول: أنَّ المراد من قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو أنَّها منتظرة ومترقِّبة كما هو مفاد قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}(2) أي فمنتظرة الردَّ الذي يرجع به المرسلون.
وكذلك هو مفاد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}(3) أي غير منتظرين نضج الطعام، فالآية تنهى المؤمنين عن المجيء مبكراً إلى بيوت النبيِّ (ص) إذا دعوا لتناول الطعام فيطول مكثهم انتظاراً لنضج الطعام، فقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} معناه غير منتظرين نضج الطعام المقتضي ذلك للمكث الطويل في بيت النبيِّ (ص) وهو ما قد يُؤذي النبي (ص).
وعليه يمكن حمل قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على إرادة أنَّها منتظرة لثواب ربِّها وللنعيم المدَّخر لها في الجنَّة كما أُثر ذلك عن الإمام أمير المؤمنين (ع)(4) وكذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهم السلام في قول الله تعالى :{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال : يعنى مشرقه ينتظر ثواب ربِّها"(5)
وقريبٌ من هذا المعنى حمل قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على أنَّها مؤمِّلة وراجية وطامعة في رحمة ربِّها وثوابه الذي وعد به المؤمنين، فإنَّ النظر يُستعمل في كلام العرب ويراد منه الطمع والرجاء، فيُقال أنظر إلى عفوك وصفحك يعني أطمع في عفوك، ويقال ينظر الفقير إلى كرم الغني يعني يطمع في كرمه ونواله ، ويقال: عيني ناظرة إلى الله وإليكم أي طامعة ومتأملِّة لنوالكم، ويقال: أنا إلى فلان ناظرٌ ما يصنع بي، يقصد من ذلك التوقع والرجاء، وكذلك يقال كما أفاد الشيخ الطبرسي: فنظر الناس مختلف: "فناظر إلى سلطان، وناظر إلى تجارة ، وناظر إلى زراعة ، وناظر إلى ربِّه يؤمله"(6) فالناظر إلى تجارته يؤمل الربح، والناظر إلى الزراعة يؤمِّل ويطع أن يجني منها ثمراً صالحاً، والناظر إلى ربَّه يؤمِّل ويرجو رزقه وتوفيقه وحفظه وهكذا .
إشكالٌ وحواب:
وأمَّا ما يقال من أنَّ النظر بمعنى الانتظار أو الطمع والرجاء لا يتعدَّى لمفعوله بإلى بل يتعدَّى لمفعوله بنفسه، فيقال انتظرته ولا يقال انتظرت إليه، وهذا بخلاف النظر بمعنى الرؤية البصرية فإنَّه يتعدَّى لمفعوله بإلى فيُقال نظرت إلى السماء ونظرت إلى القمر ، فلو كان المراد من قوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو أنَّها منتظرة لكان المناسب أن يقال: ناظرة ربَّها وليس ناظرة إلى ربِّها .
وأجيب عن ذلك بعدَّة أجوبة:
منها: أنَّ النظر بمعنى الانتظار جاء في كلام العرب معدَّى بالى كما في قول الشاعر:
إنِّي إليك لما وعدتَ لناظرٌ * نظر الفقير إلى الغني الموسر(7)
يعني لمنتظِرٌ وعدَك الجميل، فالنظر عُدِّي بالى رغم أنَّه بمعنى الانتظار
وكذلك هو الشأن في مثل قول الشاعر:
وجوهٌ يوم بدرٍ ناظراتٌ * إلى الرحمن تأتي بالفلاح(8)
أي منتظِرة معونةَ الرحمن ونصره، فرغم أنَّ النظر هنا بمعنى الانتظار إلا أنَّه لم يتعدَّ للمفعول بنفسه بل تمَّت تعديتُه بالى .
وكذلك هو الشأن في قول الشاعر:
وإذا نظرتُ إليك من ملكٍ * والبحر دونك زدتني نعما(9)
فالنظر هنا بمعنى التوقُّع والرجاء في رفد الملك وكرمه، ورغم ذلك تمَّت تعدية النظر لمفعوله بالى.
ومنها: أنَّ النظر يجوز تعديته لمفعوله بالى لتضمينه معنى الرؤية، وقد ورد في القرآن تعدية الرؤية بالى كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}(10)
الاحتمال الثاني: أنَّ المراد من قوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو نظر القلب والرؤية القلبيَّة وليس الرؤية البصريَّة الحسيَّة، فإنَّ الرؤية قد تُسند للقلب كما في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}(11) وفي التوحيد للشيخ الصدوق بإسناده إلى محمد بن الفضيل قال: سألتُ أبا الحسن عليه السلام هل رأى رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ربه عزَّوجلَّ ؟ فقال : نعم بقلبه رآه ، أما سمعتَ الله عزَّوجلَّ يقول :{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ؟ لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد"(12)
الاحتمال الثالث: أنَّ المراد من قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو نظر العين ولكن ليس إلى ذات الله جلَّ وعلا وإنَّما إلى نعيمه وجنَّته فقوله:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} معناه إلى نعيم ربِّها ناظرة فحُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه تماماً كما في قوله تعالى:{ وَجَاءَ رَبُّكَ}(13) أي وجاء أمرُ ربِّك أو جاء قضاؤه أو عذابه، وكما في قوله تعالى: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}(14) أي أدعوكم إلى دين العزيز الغفار، فخذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه.
فمعنى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو أنَّها إلى نعيم ربها وثوابه ناظرة، ويؤكد إرادة هذا الاحتمال ما روي عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا عليهم السلام في قول الله تعالى :{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال : يعنى مشرقة، ينتظر ثواب ربها"(15)
ومن ذلك يتَّضح أنَّ الآية ليست صريحةً في إرادة المعاينة والرؤية البصريَّة بل ولا هي ظاهرة في ذلك، فإنَّ مفاد الآية يحتمل أكثر من معنى وهو ما يُوجب إجمالها لو قطعنا النظر عمَّا ذكرناه في الجواب الأول وإلا فمقتضى القرائن العقليَّة القطعيَّة هو امتناع الرؤية البصرية وهو ما يقتضي المنع من ظهور الآية في إرادة المعاينة والرؤية البصرية وتعيُّن ظهورها فيما يناسب مقتضى القرينة وهو الرؤية القلبيَّة أو الرؤية لنعيم الله أو الانتظار لرحمته التي وعد بها عباده المؤمنين .
هذا مضافاً إلى أنَّ مقتضى الجمع العرفي والعقلائي بين الآية والآيات الصريحة في امتناع الرؤية البصرية لله جلَّ وعلا كقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (16) مقتضى الجمع بينها وبين مثل هذه الآية هو تعيُّن حمل النظر على إرادة غير المعاينة والرؤية البصرية، فإنَّه إذا ورد خطابان من متكلِّمٍ واحد وكان أحد الخطابين صريحاً في معناه، وكان الخطاب الآخر محتملاً لأكثر من معنى فإنَّ مقتضى الجمع العرفي والعقلائي هو حمل الخطاب الثاني على إرادة المعنى الذي لا يتنافي مع معنى الخطاب الصريح . فلو قال أحدُهم إن الله رزقني بولدٍ بار، وقال في خطاب أخر إنِّي لم أتزوج قط ولا عاشرتُ امرأةً في حياتي قط، فإنَّ الخطاب الثاني صريح في امتناع أنْ يكون له ولد من صلبه، ولهذا يتعيَّن حمل الخطاب الأول على إرادة الولد المعنوي أو بالتبنِّي.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
22 من ذي الحجة 1446ه
19 يونيو 2025م.
------------------------
1- سورة القيامة: 22، 23.
2-سورة النمل: 35.
3- سورة الأحزاب: 53.
4- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10/ 199
5- عيون أخبار الرضا (ع) - الصدوق- ج1/ 105.
6- تفسير مجمع البيان – الطبرسي- ج10/ 200.
7-التبيان في تفسير القرآن- الطوسي-ج1/ 229.
8- التبيان في تفسير القرآن- الطوسي-ج1/ 229.
9-تفسير البيضاوي- البيضاوي- ج5/ 423.
10- سورة الفرقان: 45.
11- سورة النجم: 11.
12-التوحيد - الصدوق- ص 116.
13-سورة الفجر: 22.
14- سورة غافر: 42.
15- عيون أخبار الرضا (ع)- الصدوق- ج1/ 105.
16- سوورة الأنعام: 103.