مناقشة ادعاء نسخ آية: (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ...)

﴿إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾(1).

فقد ذكروا أن الآية منسوخة بالأمر بنبذ ميثاق المشركين، وبالأمر بقتالهم سواء أكانوا اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم، فيكون في الآية موردان للنسخ.

والجواب: إن الآية الكريمة نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا وكفروا بعد إسلامهم في الظاهر، والدليل على ذلك سياق الآية الكريمة، فقد قال الله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾(2).

﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا﴾(3).

﴿إلا الذين يصلون﴾(4).

وعلى ذلك فالحكم في الآية وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم أسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم، والحكم فيهم بمقتضى الآية هو القتل إلا في موردين:

1- وصولهم إلى قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة، واستجارتهم بهم فيجري عليهم حكم القول الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة، ولكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة، فإذا ألغيت بينهم وبين المسلمين لم يبق للحكم موضوع وقد أوضحنا في أول هذا البحث أن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء، وقد ألغيت المعاهدة بين المسلمين والمشركين في سورة التوبة وأمهلوا أربعة أشهر ليتخيروا إما الإسلام، وإما الخروج عن بلاد المسلمين، وعلى ذلك فلم يبق موضوع للاستجارة التي ذكرتها الآية.

2- مجيئهم إلى المسلمين، وقد حصرت صدورهم عن القتال، مع اعتزالهم، وإلقائهم السلم إلى المسلمين بعد الردة، والمراد بإلقاء السلم إظهار الإسلام، والإقرار بالشهادتين، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا﴾(5).

فالآية دالة على قبول المرتد الملي إذا أظهر التوبة والإسلام، وأنه لا يقتل بعد التوبة، وقد استقر على هذا مذهب الإمامية: ولم ترد في القرآن آية تدل على وجوب قتل المرتد على الإطلاق، لتكون ناسخة لذلك.

أما إذا أراد القائل بالنسخ: أن يتمسك في نسخ الآية بما دل على قتال المشرك والكافر، فمن الواضح أن ذلك مشروط ببقاء موضوعه، على ما هي القاعدة المتبعة في كل قضية حقيقية في الأحكام الشرعية وغيرها.

نعم ورد الأمر بقتل المرتد على الإطلاق في بعض روايات أهل السنة، فقد روى البخاري، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجة عن بن عباس عن رسول الله (ص) أنه قال: " من بدل دينه فاقتلوه ".

إلا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم مقيد بعدم التوبة، وإن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب فيها، وفي وجوب الاستتابة واستحبابها.

فالمشهور بين الإمامية أنه واجب، وأنه لا يحد بمدة مخصوصة، بل يستتاب مدة يمكن منه الرجوع فيها إلى الإسلام، وقيل يستتاب ثلاثة أيام، ونسب ذلك إلى بعض الإمامية، (واختاره كثير من علماء أهل السنة، وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى استحباب الإمهال ثلاثة أيام) (6).

نعم ذهب علي بن أبي بكر المرغيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال، ونسب ابن الهمام إلى الشافعي، وابن المنذر أنهما قالا في المرتد: "إن تاب في الحال وإلا قتل".

وعلى كل فلا إشكال في سقوط حكم القتل بالتوبة، كما صرح به في الروايات المأثورة عن الطريقين، وبعد ذلك فلا تكون الآية منسوخة.

المصدر:

البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.


1- النساء 90

2- النساء/88

3- النساء/89

4- النساء/90

5- النساء/94

6- المنتقى ج 2 ص 745