مناقشة ادعاء نسخ آية: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات...)

 

﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(1).

 

فقد ذهب أكثر علماء أهل السنة إلى أن الاية منسوخة، ولهم في بيان نسخها وجوه:

1- إنها واردة في الزكاة، وأن وجوبها قد نسخ في غير الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب على ما هو الاشهر، بل ولا قائل من الصحابة والتابعين بوجوبها في كل ما أنبتت الارض، نعم ذهب أبو حنيفة وزفر إلى وجوبها في غير الحطب والحشيش، والقصب.

 

2- إن حكم الاية قد نسخ بالسنة: العشر ونصف العشر، وذهب إلى ذلك السدي، وأنس بن مالك، ونسب ذلك إلى ابن عباس، ومحمد بن الحنفية.

 

3- إن مورد الاية غير الزكاة، وقد نسخ وجوب إعطاء شئ من المال بوجوب الزكاة، ذهب إلى ذلك عكرمة، والضحاك، ونسب ذلك إلى سعيد ابن جبير أيضا.

 

والحق: بطلان القول بالنسخ في مدلول الاية الكريمة، والدليل على ذلك وجوه:

 

الأول: الروايات المستفيضة عن أهل البيت (ع) الدالة على أن الحق المذكور في الاية هو غير الزكاة، وهو باق ولم ينسخ، منها ما رواه الشيخ الكليني بإسناده عن معاوية بن الحجاج، قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في الزرع حقان: حق تؤخذ به، وحق تعطيه، قلت: وما الذي أؤخذ به وما الذي أعطيه؟ قال أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر، وأما الذي تعطيه فقول الله عز وجل: " وآتوا حقه يوم حصاده "، وقد روى ابن مردويه بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله في قول الله تعالى: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾، قال: ما سقط من السنبل".

 

الثاني: إن سورة الانعام نزلت بمكة جملة واحدة، وقد صرحت بذلك روايات كثيرة، منها: ما رواه الشيخ الكليني، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام إن سورة الانعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى نزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعظموها وبجلوها، فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها ".

 

ومنها: ما روي عن ابن عباس قال:" نزلت سورة الانعام بمكة ليلا جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح ".

 

ومما لا ريب فيه أن وجوب الزكاة إنما نزل في المدينة، فكيف يمكن أن يقال: إن الاية المذكورة نزلت في الزكاة!.

 

وحكى الزجاج أن هذه الاية قيل فيها: إنها نزلت بالمدينة، وهذا القول مخالف للروايات المستفيضة المتقدمة، وهو مع ذلك قول بغير علم.

 

الثالث: إن الايتاء الذي امرت به الاية الكريمة قد قيد بيوم الحصاد فلا بد أن يكون هذا الحق غير الزكاة، لانها تؤدى بعد التنقية والكيل، ومما يشهد على أن هذا الحق غير الزكاة أنه قد ورد في عدة من الروايات المأثورة عن أهل البيت (ع) النهي عن حصاد الليل، معللا في بعضها أنه يحرم منه القانع والمعتر.

 

وروى جعفر بن محمد بن إبراهيم، بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: " ان رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الجداد بالليل، والحصاد بالليل، قال جعفر: أراه من أجل المساكين ".

 

وأما ما قيل في توجيه ذلك: إن يوم الحصاد يمكن أن يكون ظرفا لتعلق الحق بالمال لا للايتاء فيبطله أنه خلاف الظاهر الذي يفهمه العرف من الاية، بل كاد يكون خلاف صريحها، فإن الظرف إنما يتعلق بما تدل عليه مادة الفعل، ولا يتعلق بما تدل عليه هيئته، فإذا قيل أكرم زيدا يوم الجمعة كان معناه أن يوم الجمعة ظرف لتحقق الاكرام، لا أنه ظرف لوجوبه.

 

2 - أن الزكاة لا تجب يوم الحصاد، بل يتعلق الحق بالمال إذا انعقد الحب، وصدق عليه اسم الحنطة والشعير، وعلى ذلك فذكر يوم الحصاد في الاية قرينة قطعية على أن هذا الحق هو غير الزكاة، ومما يؤيد أن هذا الحق هو غير الزكاة: أنه تعالى نهى في هذه الاية عن الاسراف وذلك لا يناسب الزكاة المقدرة بالعشر ونصف العشر، وإذا اتضح أن الحق الذي امرت الاية الكريمة بإيتائه هو غير الزكاة الواجبة لم تكن الزكاة ناسخة له.

 

وجملة القول: أن دعوى النسخ في الاية المباركة تتوقف على إثبات وجوب حق آخر في الزروع حتى ينسخ بوجوب الزكاة، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك، لان ظهور الامر في الوجوب، وظهوره في الدوام والاستمرار لا يمكن الاحتفاظ بهما جميعا في الاية، وذلك للعلم بأنه لا يجب حق آخر بعد الزكاة فلا بد - إذن - من التصرف في أحد الظهورين، إما برفع اليد عن الظهور في الوجوب، وإبقائه على الدوام والاستمرار، فيلتزم - حينئذ - بثبوت حق آخر استحبابي باق إلى الابد، وإما برفع اليد عن الدوام والاستمرار، وإبقائه على الظهور في الوجوب فيلتزم بالنسخ، ولا مرجح للثاني على الاول، بل الترجيح للاول والدليل على ذلك أمران:

1- الروايات المستفيضة عن الائمة المعصومين (ع) ببقاء هذا الحق واستحبابه، " وقد أشرنا إلى هذه الروايات آنفا".

 

2- أن هذا الحق لو كان واجبا لشاع بين الصحابة والتابعين، ولم ينحصر القول به بعكرمة، والضحاك، أو بواحد واثنين غيرهما.

 

وحاصل ما تقدم: أن الحري بالقبول هو القول بثبوت حق آخر تدبي في الثمار والزروع، وهذا هو مذهب الشيعة الامامية، وعليه فلا نسخ لمدلول الاية الكريمة.

 

المصدر:

البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.


1- الأنعام/141