مناقشة ادعاء نسخ آية: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة...)

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾(1).

 

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(2).

 

فقد استفاضت الروايات من الطريقين: أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير علي عليه السلام فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم، فكان كلما ناجى الرسول صلى الله عليه واله وسلم قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات.

 

أحاديث العمل بآية النجوى: روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال: " قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا قد شركته فيها وفضلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني أحد منهم، قلت: يا أمير المؤمنين فأخبرني بهن، فقال عليه السلام: وإن أول منقبة - وذكر السبعين - وقال في ذلك: وأما الرابعة والعشرين فإن الله عز وجل أنزل على رسوله: إذا ناجيتم فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله أتصدق قبل ذلك بدرهم، والله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عز وجل: ءأشفقتم.. ".

 

وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال: " قال علي رضي الله عنه آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلى ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي: إذا ناجيتم ".

 

قال الشوكاني: وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه - علي بن أبي طالب - قال: " ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة يعني آية النجوى ".

 

وأخرج سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضا قال: " إن في كتاب الله لاية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى: إذا ناجيتم...كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت: ء أشفقتم.. ".

 

وتحقيق القول في ذلك: أن الآية المباركة دلت على أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم خير، وتطهير للنفوس، والامر به أمر بما فيه مصلحة العباد.

 

ودلت على أن هذا الحكم إنما يتوجه على من يجد ما يتصدق به، أما من لا يجد شيئا فإن الله غفور رحيم ولا ريب في أن ذلك مما يستقل العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحته فإن في الحكم المذكور نفعا للفقراء، لانهم السمتحقون للصدقات، وفيه تخفيف عن النبي صلى الله عليه واله وسلم فإنه يوجب قلة مناجاته من الناس، وأنه لا يقدم على مناجاته - بعد هذا الحكم - إلا من كان حبه لمناجاة الرسول أكثر من حبه للمال.

 

ولا ريب أيضا في أن حسن ذلك لا يختص بوقت دون وقت.

 

ودلت الآية الثانية على أن عامة المسلمين - غير علي بن أبي طالب عليه السلام - أعرضوا عن مناجاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم إشفاقا من الصدقة، وحرصا على المال.

 

سبب نسخ صدقة النجوى: ولا ريب في أن إعراضهم عن المناجاة يفوت عليهم كثيرا من المنافع والمصالح العامة.

 

ومن أجل حفظ تلك المنافع رفع الله عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعلى النفع الخاص بالفقراء، وأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله.

 

وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ، وأن الحكم المجعول بالاية الاولى قد نسخ وارتفع بالاية الثانية.

 

ويكون هذا من القسم الاول من نسخ الكتاب - أعني ما كانت الاية الناسخة ناظرة إلى انتهاء أمد الحكم المذكور في الاية المنسوخة - ومع ذلك فنسخ الحكم المذكور في الاية الاولى ليس من جهة اختصاص المصلحة التي اقتضت جعله بزمان دون زمان إذ قد عرفت انها عامة لجميع أزمنة حياة الرسول صلى الله عليه وآله إلا أن حرص الامة على المال، وإشفاقها من تقديم الصدقة بين يدي المناجاة كان مانعا من استمرار الحكم المذكور ودوامه، فنسخ الوجوب وابدل الحكم بالترخيص.

 

وقد يعترض: أنه كيف جعل الله الحكم المذكور " وجوب التصدق بين يدي النجوى " مع عامه منذ الازل بوقوع المانع!.

 

والجواب: أن في جعل هذا الحكم ثم نسخه - كما فعله الله سبحانه - تنبيها للامة، وإتماما للحجة عليهم.

 

فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك أن الصحابة كلهم آثروا المال على مناجاة الرسول الاكرم، ولم يعمل بالحكم غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

 

وترك المناجاة وإن لم يكن معصية لله سبحانه، لان المناجاة بنفسها لم تكن واجبة، ووجوب الصدقة كان مشروطا بالنجوى، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدقة ولا معصية في ترك المناجاة، إلا أنه يدل على أن من ترك المناجاة يهتم بالمال أكثر من اهتمامه بها.

 

حكمة تشريع صدقة النجوى: وفي نسخ هذا الحكم بعد وضعه ظهرت حكمة التشريع، وانكشفت منة الله على عباده، وبان عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبي الاكرم، وعرف مقام أمير المؤمنين عليه السلام من بينهم.

 

وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب، وتدل عليه أكثر الروايات.

 

وأما إذا كان الامر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى أمرا صوريا امتحانيا - كأمر إبراهيم بذبح ولده - فالاية الثانية لا تكون ناسخة للاية الاولى نسخا اصطلاحيا، بل يصدق على رفع ذلك الحكم الامتحاني: النسخ بالمعنى اللغوي.

 

ونقل الرازي عن أبي مسلم: أنه جزم بكون الامر امتحانيا، لتمييز من آمن إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه فلا نسخ.

 

وقال الرازي: " وهذا الكلام حسن ما به بأس ".

 

وقال الشيخ شرف الدين: إن محمد بن العباس ذكر في تفسيره سبعين حديثا من طريق الخاصة والعامة تتضمن أن المناجي للرسول هو أمير المؤمنين عليه السلام دون الناس أجمعين.

 

ونقلت من مؤلف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ذكره أنه في جامع الترمذي، وتفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الانماوي يرفعه إلى علي عليه السلام أنه قال: " بي خفف الله عن هذه الامة لان الله امتحن الصحابة، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق بصدقة، وكان معي دينار، فتصدقت به، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالاية، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب، لامتناع الكل من العمل بها ".

 

أقول: إن هذه الرواية لا وجود لها في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي ولم أظفر بشئ من نسخة القديمة المخطوطة، ولم أظفر أيضا بتفسير الثعلبي الذي نقل عنه في جملة من المؤلفات، ولا أعلم بوجوده في مكان.

 

وكيف كان فلا ريب في أن الحكم المذكور لم يبق إلا زمنا يسيرا ثم ارتفع، ولم يعمل به أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام وبذلك ظهر فضله، سواء أكان الامر حقيقيا أم كان امتحانيا.

 

تعصب مكشوف اعتذر الرازي عن ترك شيوخ الصحابة العمل بالاية المباركة، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا، فقال ما نصه: " وذلك الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الغني، فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن في من لم يفعل، فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الاغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة، لان الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، وأيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات، ولا من الطاعات المندوبة، بل قد بينا أنهم إنما كانوا كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة، ولما كان الاولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن ".

 

تعقيب: أقول: هذا عذره، وأنت تجد أنه تشكيك لا ينبغي صدوره ممن له أدنى معرفة بمعاني الكلم، هب ان في هذا المقام لم ترد فيه رواية أصلا، أفلا يظهر من قوله تعالى: " ءأشفقتم.

 

. " أنه عتاب على ترك المناجاة خوفا من الفقر أو حرصا على المال؟ وأن الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير، إلا أن التعصب داء عضال، ومن الغريب أنه ذكر هذا، وقد اعترف قبيل ذلك بأن من فوائد هذا التكليف أن يتميز به محب الاخرة من محب الدنيا، فإن المال محك الدواعي!!.

 

وأما ان الفعل المذكور يكون سببا لحزن الفقراء، ووحشة الاغنياء فيكون تركه الموجب للالفة أولى، أما هذا الذي ذكره فلو صح لكان ترك جميع الواجبات المالية أولى من فعلها، ولكان أمره تعالى بالفعل أمرا بما يحكم العقل بأولوية تركه، وليس ببعيد أن يلتزم الرازي بهذا، وبما هو أدهى منه لينكر فضيلة من فضائل علي عليه السلام.

 

ومن المناسب - هنا - أن أنقل كلاما لنظام الدين النيسابوري، قال ما نصه: قال القاضي: " هذا - تصدق علي بين يدي النجوى - لا يدل على فضله على أكابر الصحابة، لان الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض، وقد قال فخر الدين الرازي: سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا، وينفر الرجل الغني، ولم يكن في تركه مضرة، لان الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، وأيضا الصدقة عند المناجاة واجبة، أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة، بل الاولى ترك المناجاة، لما بينا من أنها كانت سببا لسآمة النبي صلى الله عليه وآله.

 

قلت: هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما، ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضى الله عنه في كل خصلة؟ ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة؟!.

 

فقد روي عن ابن عمر: كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة رضي الله عنها، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى، وهل يقول منصف: إن مناجاة النبي صلى الله عليه وآله نقيصة، على أنه لم يرد في الاية نهي عن المناجاة، وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالاية حصل له الفضيلة من جهتين: سد خلة بعض الفقراء، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى الله عليه وآله ففيها القرب منه، وحل المسائل العويصة، وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من الما".

المصدر:

البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.


1- المجادلة/12

2- المجادلة/13