فاتحة الكتاب .. هل هي أول سورةٍ نزلت؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
بما أنَّ الصلاة لا تصحُّ إلا بفاتحة الكتاب، فهل هذا يدلُّ على أنَّ سورة الفاتحة هي أول ما نزلَ من القرآن الكريم؟
الجواب:
دليل الدعوى وجوابه:
قوله (ص): "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"(1) ليس فيه دلالة له على أنَّ الفاتحة هيّ أول ما نزل من القرآن الكريم، وذلك لوجوه:
أولا: لأنَّه لم يثبت أنَّ الصلاة قد فُرضت في أول يوم نزل فيه القرآن على قلب رسول الله (ص) بل المستفاد من بعض الروايات(2) أنَّ الصلاة إنَّما فُرضت بعد المعراج وهو متأخِّر زمنًا عن مبدأ المبعث النبويِّ الشريف وعن مبدأ نزول القرآن الكريم.
وثمة رواية عن الإمام السجاد (ع) أنها فُرضت في المدينة(3).
نعم لو ثبت أنَّ الصلاة قد فُرضت من حين نزول الوحي لكان لدعوى أنَّ الفاتحة هي أول ما نزل من الوحي وجه، وذلك لأنَّ الصلاة لمّا كانت مفروضة حين نزول الوحي ولأنَّه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فذلك يقتضي أنَّ الفاتحة قد نزلت قبل أو حين فُرضت الصلاة، ولأنَّ فرض الصلاة متزامنٌ مع نزول الوحي فهذا معناه أنَّ الفاتحة هي أول ما نزل من الوحي.
فالمقدِّمة المعوَّل عليها لإثبات أنَّ الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن ليست ثابتة، إذ لم يثبت أنَّ الصلاة قد فُرضت حين نزول الوحي.
ثانيًا: لو ثبت أنَّ الصلاة كانت مفروضة من حين نزول الوحي فإنَّ ذلك لا يقتضي أنَّ الفاتحة كانت مفروضة في تلك الصلاة فلعلَّه لم تكن الفاتحة واجبة في الصلاة التي فُرضت في صدر الدعوة وإنما اعتُبرت واجبة في الصلاة بعد ذلك، فأحكام الله تعالى لم تنزل دفعةً واحدة وإنما فُرضت على المسلمين تدريجيًا.
فلو تمَّ ما ذكرتموه من الملازمة بين فرض الصلاة في أول الدعوة وبين القول بأنَّ الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن لكان علينا الالتزام أيضًا بأن قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾(4)، هو أول ما نزل من القرآن وذلك لما ورد أنَّه :" لا صلاة إلا بطهور"(5).أو ما ورد من أنَّ: "ثمانية لا يقبل الله منهم صلاة وعدَّ منهم تارك الوضوء"(6).
فإذا كان الطهور مقوِّمًا للصلاة من أول يومٍ فُرضت فيه الصلاة وكانت مفروضةً بحسب الدعوى في أول يومٍ نزل فيه القرآن فهذا يقتضي أنْ تكون آية الطهور هي أول ما نزل من القرآن أو هي مع سورة الفاتحة، وهذا مخالف لما هو مقطوع به من تأخُّر نزول آية الطهور عن أوائل الدعوة بزمنٍ ليس بقصير(7) إلا أنْ يُقال إنَّ الطهور كان معتبراً في الصلاة من أول الأمر إلا أنَّ التنصيص عليه في القرآن جاء متأخراً.
ثالثًا: إنَّ المراد من قوله (ص): "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" هو أنَّ قراءة سورة الفاتحة واجبة في الصلاة، وليس المراد منه أنَّ قراءة الفاتحة مقوَّم لحقيقة الصلاة، وذلك بقرينة ما هو ثابت فقهيًا تبعًا للأدلة أنَّ الفاتحة ليست من أركان الصلاة التي تبطل الصلاة بتركها سهوًا أو جهلاً قصوريًا، فالرواية إذن ليست بصدد التعبير عن دخالة الفاتحة في حقيقة الصلاة شرعًا وإنَّما هي إرشاد إلى جزئية السورة في الصلاة، ويكفي لإثبات هذه الدعوى القرينة التي ذكرناها وهي عدم فساد الصلاة بترك القراءة نسيانًا أو جهلاً فليكن ذلك قرينة على المراد.
فإذا تمَّ ذلك ينتفي منشأ توهُّم الملازمة بين فرض الصلاة وبين نزول الفاتحة حين أو قبل فرض الصلاة المُنتِج لإثبات أنَّها أول ما نزل من القرآن بعد إثبات أنَّ الصلاة فُرضت في أول يوم بُعث فيه النبيُّ (ص) أو نزل فيه الوحي.فلانَّ الفاتحة ليست من الأركان المقوَّمة لحقيقة الصلاة شرعًا فهذا يقتضي إمكانية تأخُّر اعتبارها واجبة في الصلاة عن زمن فرض الصلاة.
الاستدلال بتسميتها (فاتحة الكتاب):
ثم أنَّ هنا وجهًا آخر أفاده البعض لإثبات أنَّ الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وهو أن تسميتها بفاتحة الكتاب كان باعتبار افتتاح الوحي بها.
إلا أنَّ في مقابل هذه الدعوى أفاد المشهور(8) أنَّ منشأ تسميتها بفاتحة الكتاب هو افتتاح المصاحف بها، على أنَّ ذلك منافٍ لما ورد في النصوص وعليه أكثر المفسرين(9) من الفريقين - أنَّ أول ما نزل من الوحي هو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(10)، نعم ورد في روايةٍ غير معتبرة سندًا أنَّ سورة الفاتحة هي أوَّل سورة نزلت من القرآن ولو ثبت ذلك لكان مقتضى الجمع هو أنَّ أوّل ما نزل من الوحي هو الآيات الأولى من سورة العلق وأوَّل ما نزل من السور الكاملة هو سورة الفاتحة، ولكن هذا الجمع منافٍ لما ورد في بعض النصوص(11) من التصريح عن أوَّل ما نزل هو سورة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(12).
الخلاصة:
والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ قوله (ص): "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" لا دلالة له على أنَّ فاتحة الكتاب هي أول سورةٍ نزلت من القرآن وإنْ كان لا يبعد أنَّه لم تُفرض الصلاة إلا بعد أو حين نزلت الفاتحة، إذ لم يُعهد في الإسلام قراءة غير الفاتحة في الصلاة إلا أنَّ ذلك لا يقتضي أنَّها أول سورةٍ نزلت لاحتمال تأخر فرض الصلاة عن بداية الدعوة ونزول الوحي.
والحمد لله رب العالمين
من كتاب: شؤون قرآنية
الشيخ محمد صنقور
1- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج4 ص158.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص13 / باب2 من أبواب أعداد الفرائض.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج4 / ص52 / باب13 من أبواب أعداد الفرائض / ح19 وليس بينها وبين الروايات الاخرى المشار اليها تنافٍ.
4- سورة المائدة / 6.
5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج1 / ص365 / باب 1 من أبواب الوضوء / ح1.
6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج1 / ص366 / باب 1 من أبواب الوضوء / ح4.
7- فهي من سورة المائدة والتي هي آخر سورة نزلت أو هي من أواخر ما نزل في المدنية.
8- التبيان -الشيخ الطوسي- ج1 / ص22، تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص47، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز -ابن عطية الأندلسي- ج1 / ص65.
9- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج10 / ص398، التبيان -الشيخ الطوسي- ج10 / ص379، تفسير السمعاني -السمعاني- ج6 / ص255، فتح القدير -الشوكاني- ج5 / ص467 وغيرهم وروى الشيخ القمي ذلك عن ابي جعفر الباقر (ع) ج2 ص428.
10- سورة المائدة / 6.
11- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص628، عدة الداعي -ابن فهد الحلي- ص279.
12- سورة المائدة / 6.