معنى قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ..﴾
المسألة:
ما معنى قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾(1) من المخاطب في هذه الآية المباركة والتي بعدها، وما هو سبب وخلفيات نزولها؟
الجواب:
الضأن جمع ضائن وهو صنف من الغنم، والمعز جمع ماعز وهو الصنف الآخر للغنم، ويعبَّر عن ذكر الضأن بالكبش وعن أنثاه بالنعجة ويعبَّر عن ذكر المعز بالتيس وعن أنثاه بالعنز.
ويتميَّز الضأن عن المعز أنَّ الضأن يُغطِّي جلده الصوف، وأما المعز فيغطي جلده الشعر.
وأما معنى قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ فهو إشارة إلى أصناف الأنعام الأربعة التي ذكرها في الآيتين وهي الضأن والمعز والإبل والبقر.
فذكر الضأن وأنثاه زوجان، وذكر المعز وأنثاه زوجان، وذكر الإبل وأنثاه زوجان، وذكر البقر وأنثاه زوجان فيكون المجموع ثمانية أزواج.
فثمانية أزواج معناه ثمانية أفراد كلُّ فردٍ يُعبَّر عنه بالزوج لأنَّ له ما يقابله من جنسيه.
فذكر الضأن مثلاً زوج لأنَّ له ما يقابله من جنسه وهو أنثى الضأن، وهكذا فأن أنثى الضأن زوج لأنَّ لها ما يقابلها من جنسها وهو ذكر الضأن. فكل واحدٍ منهما يعبَّر عنه بالزوج بلحاظ ما يقابله من جنسه، ولهذا يقال للرجل بلحاظ امرأته أنه زوج ويقال للمرأة بلحاظ من تزوجته من الرجال أنَّها زوج له كما في قوله تعالى: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾(2) فالزوج في الآية أطلق على المرأة وهي فرد.
فقوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ معناه ثمانية أفراد من كل جنس فردين أي زوجين فيكون الحاصل أربعة أنواع وثمانية أزواج أي أفراد.
ومعنى قوله: ﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي الذكر والأنثى وهما الكبش والنعجة ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ أي الذكر والأنثى وهما التيس والعنز.
وقيل إنَّ المراد من الأثنين في قوله تعالى: ﴿مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ هما الضأن الأهلي والضأن الوحشي، وكذلك فإن المراد من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ هو المعز الأهلي والمعز الوحشي وهكذا الإبل والبقر. وهذا مروي عن أبي عبدالله الصادق (ع) حيث روي أنه قال: "الضان اثنين زوج داجنة يربيها الناس والزوج الآخر الضان التي تكون في الجبال الوحشية .. ومن المعز اثنين زوج داجنة يربيها الناس والزوج الاخر الظباء التي تكون في المفاوز، ومن الإبل اثنين البخاتي والعراب، ومن البقر اثنين زوج داجنه للناس والزوج الآخر البقر الوحشية"(3).
وبناء على ذلك يكون كلٌّ من الذكر والأنثى زوج واحد فالضأن زوجان أهلي ووحشي والمعز زوجان أهلي ووحشي وهكذل الإبل والبقر فمجموع الأفراد ستة عشر والأزواج ثمانية كل صنف من الأربعة زوجان.
وأما قوله تعالى: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ﴾ فهو استفهام استنكاري موجَّه للمشركين، ومعناه ما هو المحرَّم بزعمكم هل هما الذكران من الضأن والمعز أو هما الأنثيان من الضأن والمعز أو أن المحرَّم بزعمكم هي الأجنة التي اشتملت عليها أرحام الأنثيين من الضأن والمعز.
وبذلك يعرف معنى قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ﴾(4) فهل المحرم عندكم من الإبل والبقر الذكران وهما الجمل والثور أو المحرم منهما الأنثيان وهما الناقة والبقرة أو أنَّ المحرم هو الأجنة التي اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الإبل والبقر.
وأما خلفية نزول هذه الآية والتي بعدها والتي قبلها فهو أنَّ عرب الجاهلية من المشركين كانوا يحرِّمون بعض أصناف هذه الأنعام الأربعة على أنفسهم ويحرمون بعضها على نسائهم دون رجالهم ويحرمون بعضها على فئة خاصة من رجالهم ويحلونها لأخرين منهم، وينسبون ما يدعونه من تحريم وتحليلٍ إلى الله تعالى. فهذه الآية والتي بعدها جاءت للتشنيع والاستنكار على ما يدعون، ومؤدى ذلك هو النفي لدعواهم وأنها لا تمتُّ لله تعالى بصلة.
وقد تصدت آيات أخرى أيضاً لنفي مدعياتهم فيما حرَّم الله من الأنعام وما حلَّل.
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(5).
فعرب الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكراً كان حلالاً أكله للرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى فإنهم يشقون أذنها ليكون ذلك علامة على أنها محرمة على النساء دون الرجال، نعم يكون شحمها ولبنها محرَّم على الرجال، وإذا ماتت هذه الناقة المشقوقة الأذن ولم تذبح فإنها تحل للنساء.
ويعبِّر عن هذه الأنثى المولودة من البطن الخامس بالبحيرة لأنهم يبحرون أذنها أي يشقونها ليكون ذلك علامة على أنها محرَّمة على النساء.
وروي أن الناقة إذا ولدت عشرة أبطن جعلوها سائبة ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها، وتطلق السائبة أيضاً كما قيل على البعير الذي ينذر صاحبه أن لا يؤكل ولا يركب فيترك سائبا إلى أن يموت.
وأما الوصيلة من الغنم فهي التي تلد سبعة أبطن، فإن كان السابع أنثى تركت الأم سائبة فلا تؤكل بل تترك حتى تموت، ويطلقون الوصيلة على الناقة التي تلدان اثنين في بطن واحد فإنهم حينئذٍ لا يستحلون ذبحها ولا أكلها.
وأما الحام فهو الفحل من الإبل إذا ركب ولد ولده يقولون حمى ظهره فلا يستحلونه.
وكانوا يقولون إنَّ البحيرة -وكذلك السائبة- إذا ولدت حياً فهو للذكور ومحرم على الإناث وإذا ولدت ميتاً فهو محلل للذكور والإناث وقد شنع القرآن عليهم في ذلك قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ﴾(6)
وكانوا يعينون بعض الأنعام والأطعمة فيحلونها لمن شاؤا ويحرمونها على الأخرين ويجعلون لله بزعمهم بعض الأنعام والحرث ويجعلون بعضاً آخر لآلتهم، فما جعلوه لله يصيِِرونه لآلهتهم وما كان لآلتهتهم فإنه لا يكون لله تعالى.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾(7).
﴿وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾(8).
وبما ذكرناه يتضح الغرض من إيراد قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(9) فإن الغرض من ذلك هو التشنيع على عرب الجاهلية فيما ينسبونه إلى الله تعالى من تحريم لبعض اللحوم.
فالقرآن في هاتين الآيتين يستفهم مستنكراً عليهم: ما الذي حرمه الله عليكم من هذه الأزواج الثمانية هل أن ما حرمه هو الذكور منها أو الإناث أو أن الذي حرَّمه هو ما تنجبه الإناث، فإن كان شيئ مما ذكر قد حرمه الله تعالى فأتوا بما يوجب العلم بصدق دعواكم أي عليكم أن تقدموا دليلاً يثبت صدق دعواكم أن الله قد حرَّم شيئاً من ذلك وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
ثم أنه تعالى سخر من دعواهم فسألهم مستنكراً ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا﴾(10) فلا يسعكم أن تدعوا ذلك إلا أن تمعنوا في الإفتراء على الله تعالى ثم قال تعالى تأكيداً على كذبهم وعجزهم عن إقامة الدليل على مدعياتهم: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(11).
والمتحصل مما ذكرناه أن الآيتين كانتا بصدد المعالجة لثقافة كانت سائدة بين عرب الجاهلية، ومؤدى ما أفادته الآيتان أن هذه الثقافة لا أصل لها سوى الوهم وأساطير المضلين ممن يروِّج للوثنية فيهم، وان دعوى انتساب هذه الثقافة لله تعالى هو محض افتراء.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الأنعام / 143.
2- سورة الأحزاب / 37.
3- الكافي -الشيخ الكليني- ج8 / ص284.
4- سورة الأنعام / 143.
5- سورة المائدة / 103.
6- سورة الأنعام / 139.
7- سورة الأنعام / 136.
8- سورة الأنعام / 138.
9- سورة الأنعام / 144.
10- سورة الأنعام / 144.
11- سورة الأنعام / 144.