صدق

- الصدق والكذب أصلهما في القول، ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، ولذلك قال: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ﴾النساء/122، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا ﴾النساء/87، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ﴾مريم/54، وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام، كالاستفهام والأمر والدعاء، وذلك نحو قول القائل: أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارا بكونه جاهلا بحال زيد، وكذا إذا قال: واسني في ضمنه إنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه (ما بين نقله السمين في عمدة الحفاظ (صدق)، ثم قال: وفيه نظر من حيث التصديق والتكذيب لم يرد على معنى الاستفهام، وما بعده إنما ورد على ما هو لازم، ولا كلام في ذلك، فلم يصح أن يقال: إنهما وردا على غير الخبر).

والصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما، بل إما أن لا يوصف بالصدق؛ وإما أن يوصف تارة بالصدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول كافر إذا قال من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن هذا يصح أن يقال: صدق، لكون المخبر عنه كذلك، ويصح أن يقال: كذب، لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذاب الله تعالى المنافقين حيث قالوا: ﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... ﴾الآية المنافقون/1،

والصديق: من كثر منه الصدق، وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قط، وقيل: بل لمن لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، قال: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ﴾مريم/41، وقال: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ﴾مريم/56، وقال: ﴿وأمه صديقة﴾المائدة/75، وقال: ﴿ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء ﴾النساء/69، فالصديقون هم قوم دوين الأنبياء في الفضيلة على ما بينت في (الذريعة إلى مكارم الشريعة (انظر: الذريعة ص 71، باب أصناف الناس). وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد، نحو: صدق ظني وكذب، ويستعملان في أفعال الجوارح، فيقال: صدق في القتال: إذا وفى حقه، وفعل ما يجب وكما يجب، وكذب في القتال: إذا كان بخلاف ذلك قال: ﴿ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾الأحزاب/23، أي: حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقوله: ﴿ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾الأحزاب/8، أي: يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيها أنه لا يكفي الاعتراف بالحق دون تحريه بالفعل، وقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ﴾الفتح/27، فهذا صدق بالفعل وهو التحقق، أي: حقق رؤيته، وعلى ذلك قوله: ﴿ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ﴾الزمر/33، أي: حقق ما أورده قولا بما تحراه فعلا، ويعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوسف به نحو قوله: ﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾القمر/55، وعلى هذا: ﴿ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾يونس/2، وقوله: ﴿ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾الإسراء/80، ﴿ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾الشعراء/84، فإن ذلك سؤال أن يجعله الله تعالى صالحا، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن ذلك الثناء كذبا بل يكون كما قال الشاعر:

إذا نحن أثنينا عليك بصالح * فأنت الذي نثني وفوق الذي نثني

(البيت لأبي نواس، وبعده:

وإن جرت الألفاظ منا بمدحه * لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني

وهو في مختارات البارودي 1/114؛ والوساطة بين المتنبي وخصومه ص 56؛ وتفسير القرطبي 1/135)

وصدق قد يتعدى إلى مفعولين نحو: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ ﴾آل عمران/ 152، وصدقت فلانا: نسبته إلى الصدق، وأصدقته: وجدته صادقا، وقيل: هما واحد، ويقالان فيهما جميعا. قال: ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾البقرة/101، ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾المائدة/46، ويستعمل التصديق في كل ما فيه تحقيق، يقال: صدقني فعله وكتابه. قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾البقرة/89، ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾آل عمران/3، ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا ﴾الأحقاف/12، أي: مصدق ما تقدم، وقوله: (لسانا) منتصب على الحال، وفي المثل: صدقني سن بكره (هذا مثل يضرب في الصدق، انظر: مجمع الأمثال 1/392؛ وأساس البلاغة ص 251. ويجوز في (سن) الرفع والنصب). والصداقة: صدق الاعتقاد في المودة، وذلك مختص بالإنسان دون غيره، قال: ﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾الشعراء/100 - 101. وذلك إشارة إلى نحو قوله: ﴿ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾الزخرف/67، والصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعله. قال: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾التوبة/103، وقال: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ﴾التوبة/60، ويقال: صدق وتصدق قال: ﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ﴾القيامة/31، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾يوسف/88، ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ ﴾الحديد/18، في آي كثيرة. ويقال لما تجافى عنه الإنسان من حقه: تصدق به، نحو قوله: ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾المائدة/45، أي: من تجافى عنه، وقوله: ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾البقرة/280، فإنه أجرى ما يسامح به المعسر مجرى الصدقة (راجع: تفسير الماوردي 1/292). وعلى هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما تأكله العافية فهو صدقة) (الحديث عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضا ميتة فهي له، وما أكلت العافية فهو له صدقة) أخرجه أحمد في المسند 3/338.

وعن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ يحيي أرضا فتشرب منها كبد حرى، أو تصيب منها عافية إلا كتب الله له به أجرا). أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه ابن المديني، انظر: مجمع الزوائد 4/160)، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾النساء/92، فسمى إعفاءه صدقة، وقوله: ﴿ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾المجادلة/12، ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾المجادلة/13، فإنهم كانوا قد أمروا بأن يتصدق من يناجي الرسول بصدقة ما غير مقدرة. وقوله: ﴿ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾المنافقون/10، فمن الصدق أو من الصدقة. وصداق المرأة وصداقها وصدقتها: ما تعطى من مهرها، وقد أصدقتها. قال تعالى: ﴿ وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾النساء/4.