الآيات 16-25 من سورة الانشقاق
قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ، فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ، فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء من (لتركبن) ومعناه لتركبن أنت يا محمد. الباقون بضم الباء على أن يكون خطابا للجميع. يقول الله تعالى مقسما بالشفق، وقد بينا أن (لا) صلة في مثل هذا، والتقدير أقسم، وقد بينا أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لاحد أن يقسم إلا بالله. وقال بعضهم: أقسم برب الشفق، والشفق هو الحمرة التي تبقى عند المغرب في الأفق، وقال الحسن وقتادة: الشفق الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة. وقال قوم: هو البياض. والصحيح أن الشفق هو الحمرة الرقيقة في المغرب بعد مغيب الشمس وأصله الشفق في العمل، وهو الرقة على خلل فيه، وأشفق على كذا إذا رق عليه وخاف هلاكه. واشفق إذا رق بالخوف من وقوعه. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: علي ثوب كأنه الشفق يريد حمرة. والاعتبار بالشفق أنه علامة لوقت بعينه لا يختلف اقتضى اثبات علم به. وقوله (والليل وما وسق) قسم آخر بالليل واتساقه. وقيل: معنى وسق جمع إلى مسكنه ما كان منتشرا بالنهار في تصرفه، يقال: وسقته أسقه وسقا إذا جمعته، وطعام موسوق أي مجموع في الغرائر والأوعية. والوسق الطعام المجتمع وقدره ستون صاعا. وقوله (والقمر إذا اتسق) قسم آخر بالقمر واتساقه أي اجتماعه على تمام وهو افتعال من الوسق، فإذا تم نور القمر واستمر في ضيائه، فذلك الاتساق له. وقال قتادة: معناه إذا استدار. وقال مجاهد: إذا استوى. وقوله (لتركبن طبقا عن طبق) جواب القسم، ومعناه منزلة عن منزلة وطبقة عن طبقة وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لان كل شئ يحن إلى شكله. وقيل: معنى (طبقا عن طبق) جزاء عن عمل. وقيل: معناه شدة عن شدة. وقيل: طبقات السماء بعروج الأرواح. وقيل: معناه حالا عن حال من أحياء وإماتة، ثم أحياء. وقيل: معناه لتصيرن إلى الآخرة عن الدنيا. وقال أبو عبيدة: معناه لتركبن سنة الأولين ومن كان قبلكم. ثم قال على وجه التبكيت لهم والتفريع (فما لهم لا يؤمنون) أي أي شئ لهم لأجله لا يصدقون بالله واليوم الآخر ولا يعترفون بالثواب والعقاب. وقيل: معناه ما لهم لا يؤمنون أي ما وجه الارتياب الذي يصرفهم عن الايمان. وقوله (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) عطف على قوله (لا يؤمنون) والمعنى ما الذي يصرفهم عن الايمان وعن السجود لله والخضوع له والاعتراف بوحدانيته إذا بلي عليهم القرآن الذي أنزلته على محمد صلى الله عليه وآله الذي يلين القلب للعمل من الوعظ والوعد والوعيد يميز به بين الحق والباطل، وهو مع ذلك معتذر عليهم الاتيان بمثله، فهو معجز له صلى الله عليه وآله. ثم قال تعالى (بل الذين كفروا يكذبون) معناه إن الذي يمنعهم من السجود عند تلاوة القرآن تكذيبهم جهلا بما عليهم وعدولا عن الحق. وفي ذلك التحذير من الجهل والحث على طلب العلم. وقيل: معناه ما لهم لا يؤمنون، ولا بد من الجزاء على الاعمال ثم قال: تكذيبهم عن جهل منهم يصرفهم عن ذلك. وقوله (والله أعلم بما يوعون) قال قتادة ومجاهد: معناه بما يوعون في صدورهم وإنما قال: يوعون، لأنهم يحملون الآثام في قلوبهم، فشبه ذلك بالوعاء، يقال: أوعيت المتاع ووعيت العلم، قال الفراء: الأصل جعل الشئ في وعاء، والقلوب شبه أوعية لما يحصل فيها من معرفة أو جهل. ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (فبشرهم) يا محمد جزاء على كفرهم (بعذاب اليم) أي مؤلم. ثم استثنى من جملة من يخاطبه فقال (إلا الذين آمنوا) بالله (وعملوا) الاعمال (الصالحات لهم أجرا غير ممنون) أي غير منقوص، في قول ابن عباس وقال غيره: غير مقطوع، وقيل: غير منغص بالمن الذي يؤذي. وإنما قيل له: من، لأنه قطع له عن شكر النعمة. قال الزجاج: تقول العرب: مننت الحبل إذا قطعته قال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه * غبس كواسب ما يمن طعامها (1)
أي ما ينقص، وقيل ما يكدر، وكان ابن مجاهد ومحمد بن القاسم الأنباري يقفان على قوله (فبشرهم بعذاب اليم) ويبتدؤون بقوله (إلا الذين آمنوا) قال ابن خالويه: فسألتهما عن ذلك فقالا: الاستثناء منقطع ومعناه (لكن).
1- مر في 1 / 322.