الآيات 1-9 من سورة الانشقاق
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي خمس وعشرون آية في الكوفي والمدنيين وثلاث في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾
يقول الله تعالى لنبيه وهو متوجه إلى جميع المكلفين على وجه الوعيد لهم والتخويف من عقابه والتنبيه لهم على قرب أو ان مجيئه (إذا السماء انشقت) وتقديره اذكر إذا السماء انشقت، ومعناه إذا انفطرت السماء وتصدعت وانفرجت، فالانشقاق افتراق امتداد عن التئام، فكل انشقاق افتراق وليس كل افتراق انشقاقا وقيل: الانشقاق الانفطار، والانصداع الانفراج. وقوله (وأذنت لربها وحقت) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: معناه سمعت وأطاعت أي كأنها سمعت بأذن وأطاعت بانقياد لتدبير الله. تقول العرب أذن لك هذا الامر أذنا بمعنى أسمع لك قال عدي بن زيد: أيها القلب تعلل بددن، إن همي في سماع وأذن وقال آخر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم اذنوا (1)
أي سمعوا وقال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له * وحديث مثل ما ذي مشار (2)
وقيل إن معنى و (حقت) حق لها أن تأذن بالانقياد لامر ربها، يقال: حق له أن يكون على هذا الامر بمعنى جعل ذلك حقا. وقوله (وإذا الأرض مدت روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: (تمد الأرض يوم القيامة مثل الأديم) ومعنى (مدت) بسطت إن الله تعالى يأمر بأن تمد مد الأديم العكاظي حتى يزيد في سعتها. وقيل معناه إنها تبسط باندكاك جبالها وآكامها حتى تصير كالصحيفة الملساء. وقوله (وألقت ما فيها وتخلت) معناه القت ما فيها من المعادن وغيرها، وتخلت منها، وذلك مما يؤذن بعظم الامر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدة وقال قتادة ومجاهد: أخرجت الأرض أثقالها. وقوله (وأذنت لربها وحقت) قد فسرناه وليس هذا على وجه التكرار، لان الأول في صفة السماء والثاني في صفة الأرض فليس بتكرار وهذا كله من أشراط الساعة وجلائل الأمور التي تكون فيها. وجواب (إذا السماء انشقت) محذوف وتقديره إذا كانت هذه الأشياء التي ذكرها وعددها رأى الانسان ما قدم من خير أو شر، وقيل جوابه في (إنك كادح) قال ابن خالويه الفاء مقدرة والتقدير إذا السماء انشقت إلى قوله (وحقت) فيا أيها الانسان إنك كادح. وقال البلخي: الواو زائدة وجواب قوله (أذنت لربها) (وحقت) وهو كقوله (حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها) والأول هو الوجه. وقوله (يا أيها الانسان) خطاب لجميع المكلفين من البشر من ولد آدم يقول الله لهم ولكل واحد منهم (يا أيها الانسان إنك كادح) والكدح السعي الشديد في الامر يقال: كدح الانسان في أمره يكدح، وفيه كدوح وخدوش أي آثار من شدة السعي في الامر، ومعنى (كادح إلى ربك كدحا) أيها الانسان إنك في امرك بشدة ومشقة إلى أن تلقى جزاء عملك من ربك، فأنت لا تخلو في الدنيا من مشقة، فلا تعمل لها، واعمل لغيرها فيما تصير به إلى الراحة من الكدح، فالغني والفقير كل واحد منهما يكدح ما يقتضيه حاله. وقوله (فملاقيه) تفخيم لشأن الامر الذي يلقى من جهته، فجعل لذلك لقاء جزائه، لقاءه وهذا من المعاني العجيبة والحكمة البالغة والهاء في (فملاقيه) يحتمل أمرين: أن تكون كناية عن الله، وتقديره فملاقي ربك أي تلاقى جزاء ربك، ويحتمل أن تكون كناية عن الكدح، وتقديره فملاقي كدحك الذي هو عملك. وقال تميم بن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى ابتغى العيش اكدح (3)
أي ادؤب وأسعى في طلب العيش. ثم قسم تعالى أحوال الخلق يوم القيامة فقال (فأما من أوتي كتابه بيمينه) يعني من أعطي كتابه الذي فيه ثبت أعماله من طاعة أو معصية بيده اليمنى (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) أي يواقف على ما عمل من الحسنات وماله عليها من الثواب، وما حط عنه من الأوزار إما بالتوبة أو المغفرة، فالحساب اليسير التجاوز عن السيئات، والاحتساب بالحسنات. ومن نوقش بالحساب هلك، روي عن النبي صلى الله عليه وآله، وقوله (وينقلب إلى أهله مسرورا أي فرحا مستبشرا. وقيل المراد بالأهل - ههنا - هم الذين أعد الله لهم من الحور العين، ويجوز أن يكون المراد أقاربه إذا كانوا من أهل الجنة والسرور هو الاعتقاد أو العلم بوصول نفع إليه في المستقبل أو دفع ضرر عنه وقال قوم: هو معنى في القلب يلتذ لأجله بنيل المشتهى يقال: سر بكذا من مال أو ولد أو بلوغ أمل يسر سرورا.
1- مر في 5 / 44.
2- مر في 5 / 287.
3- مر في 3 / 212 و 4 / 77 و 8 / 243.