الآيات 1-14 من سورة التكوير
مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي تسع وعشرون آية بلا خلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأهل البصرة (سجرت) خفيفة الجيم. الباقون بتشديدها وقرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص عن عاصم (نشرت) خفيفة الشين. الباقون بالتشديد. وقرأ نافع وباقي أهل المدينة وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم إلا يحيى ورويس (سعرت) بتشديد العين. الباقون بتخفيفها. وقرأ أبو جعفر (قتلت) مشددة التاء، الباقون بتخفيفها. يقول الله تعالى مخبرا عن وقت حضور القيامة وحصول شدائدها (إذا الشمس كورت) فاللفظ وإن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال، لأنه إذا اخبر تعالى بشئ فلابد من كونه، فكأنه واقع. والفعل الماضي يكون بمعنى المستقبل في الشرط والجزاء، وفى أفعال الله، وفى الدعاء إذا تكرر كقولك حفظك الله وأطال بقاءك. ومعنى كورت) - في قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة والضحاك - ذهب نورها. وقال الربيع بن خيثم: معناه رمي بها، والتكوير تلفيف على جهة الاستدارة ومنه كور العمامة، كور يكور تكويرا، ومنه الكارة، ويقال: كورت العمامة على رأسي اكورها كورا وكورتها تكويرا. ويقال: طعنه فكوره أي رمى به، ذكره الأزهري، ومنه قولهم: أعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من النقصان بعد الزيادة فالشمس تكور بأن يجمع نورها حتى يصير كالكارة الملقاة فيذهب ضوءها ويجدد الله - عز وجل - للعباد ضياء غيرها. وقوله (وإذا النجوم انكدرت) فالنجوم جمع نجم، وهو الكوكب وجمعه كواكب. ومنه نجم النبت إذا طلع ينجم نجما فهو ناجم، وكذلك نجم القرن، ونجم السن. والانكدار انقلاب الشئ حتى يصير الاعلى الأسفل بما لو كان ماء لتكدر. وقيل: أصل الانكدار الانصباب. قال العجاج: أبصر خربان فضاء فانكدر (1) وقال مجاهد والربيع بن خيثم وقتادة وأبو صالح وابن زيد: انكدرت معناه تناثرت. وقوله (وإذا الجبال سيرت) فمعنى تسيير الجبال تصييرها هباء وسرابا وقوله (وإذا العشار عطلت) فالعشار جمع عشراء، وهي الناقة التي قد أنى عليها عشرة اشهر من حملها، وهو مأخوذ من العشرة. والناقة إذا وضعت لتمام ففي سنة، وقال الفراء: العشار لقح الإبل التي عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم. وقال الجبائي: معناه ان السحاب يعطل ما يكون فيها من المياه التي ينزلها الله على عباده في الدنيا. وحكى الأزهري عن أبي عمرو أنه قال: العشار الحساب. قال الأزهري: وهذا لا اعرفه في اللغة. والمعنى إن هذه الحوامل التي يتنافس أهلها فيها قد أهملت وقوله (وإذا الوحوش حشرت) قال عكرمة: حشرها موتها. وغيره قال: معناه تغيرت الأمور بأن صارت الوحوش التي تشرد في البلاد تجتمع مع الناس وذلك أن الله تعالى يحشر الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الاعواض على الآلام التي دخلت عليها، وينتصف لبعضها من بعض، فإذا عوضها الله تعالى، فمن قال: العوض دائم قال تبقى منعمة على الأبد. ومن قال: العوض يستحق منقطعا اختلفوا فمنهم من قال: يديمها الله تفضلا لئلا يدخل على العوض غم بانقطاعه. ومنهم من قال: إذا فعل بها ما تستحقه من الاعواض جعلها ترابا. وقوله (وإذا البحار سجرت) معناه ملئت نارا كما يسجر التنور، وأصل السجر الملا قال لبيد:
فتوسطا عرض السري وصدعا * مسجورة متجاوز أقدامها (2)
أي مملوءة، ومنه (البحر المسجور) (3) قال ابن عباس وأبي بن كعب: سجرت أو قدت، فصارت نارا. وقال شمر بن عطية: صارت بمنزلة التنور المسجور وقال الحسن والضحاك: معناه ملئت حتى فاضت على الأرضين فتنسقها حتى تكون لحج البحار ورؤس الجبال بمنزلة واحدة، وقيل: معنى (سجرت) جعل ماؤها شرابا يعذب به أهل النار. وقال الفراء: معناه افضي بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا. ومن ثقل أراد التكثير، ومن خفف، فلانه يدل على القليل والكثير. وقوله (وإذا النفوس زوجت) معناه ضم كل واحد منها إلى شكله، والنفس قد يعبر به عن الانسان ويعبر به عن الروح، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وقتادة: كل إنسان بشكله من أهل النار وأهل الجنة. وقال عكرمة والشعبي: معنى زوجت ردت الأرواح إلى الأجساد. وقيل: معناه يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان وقوله (وإذا الموؤودة سئلت) فالموؤودة المقتولة بدفنها حية، فكانت العرب تئد البنات خوف الاملاق، وأدها يئدها وأدا، فهي موؤودة أي مدفونة حية، وعلى هدا جاء قوله (ولا تقتلوا أولادكم من املاق) (4) وقال قتادة: جاء قيس ابن عاصم التميمي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: اني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وآله (فاعتق عن كل واحدة رقبة) قال إني صاحب أبل. قال (فاهد إلى من شئت عن كل واحدة بدنة) وقيل موؤودة للثقل الذي عليها من التراب وقوله (ولا يؤوده حفظهما) (5) أي لا يثقله، قال الفرزدق:
ومنا الذي منع الوائدات * وأحيا الوئيد فلم يوأد (6)
وإنما يسأل عن الموؤودة على وجه التوبيخ لقاتلهما، وهو أبلغ من سؤاله، لان هذا مما لا يصلح إلا بذنب، فأي ذنب كان لك، فإذا ظهر انه لا ذنب لها جاءت الطامة الكبرى على قاتلها، لأنه رجع الامر إليه بحجة يقربها. وقال قوم: تقديره سئلت قتلها بأي ذنب قتلت، فالكناية عنها أظهر. وروي في الشواذ، وهو المروي عن ابن عباس وغيره من الصحابة أنهم قرءوا (وإذا المؤودة سألت بأي ذنب قتلت) جعلوها هي السائلة عن سبب قتلها لا المسؤولة وهو المروي في اخبارنا وقوله (وإذا الصحف نشرت) فالنشر بسط المطوي، والنشر للصحف والثياب ونحوها. والصحف جمع صحيفة وهي الصحيفة التي فيها اعمال الخلق من طاعة ومعصية، فتنشر عليه ليقف كل انسان على ما يستحقه. وقوله (وإذا السماء كشطت) فالكشط القلع عن شدة التزاق كشط جلدة الرأس يكشطها كشطا إذا قلعها فقلع السماء عن مكانها على شدة ما فيها من اعتماد كقلع جلدة الرأس عن مكانها، والكشط والنشط واحد. وفى قراءة عبد الله (وإذا السماء نشطت). وقوله (وإذا الجحيم سعرت) معناه اشتعلت وأضرمت، فالتسعير تهيج النار حتى تتأجج، ومنه السعر، لأنه حال هيج الثمن بالارتفاع والانحاط، وأسعرت الحرب والشر بين القوم من هذا ومن شدد أراد التكثير، ومن خفف فلانه يدل على القليل والكثير. وقال قتادة: يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وقوله (وإذا الجنة أزلفت) أي قربت من أهلها يوم القيامة فالازلاف إدناء ما يجب، ومنه الزلفة القربة، وأزدلف إلى الامر اقترب منه. ومنه المزدلفة لأنها قريب من مكة. وقوله (علمت نفس ما أحضرت) هو جواب (إذا الشمس كورت) وما بعدها من الشروط، والمعنى إن عند ظهور الأشياء التي ذكرها وعددها تعلم كل نفس ما عملته من طاعة أو معصية، وقد كان غافلا عنه. وهو كقوله (أحصاه الله ونسوه) (7).
1- مر في 8 / 146.
2- مر في 7 / 118 و 9 / 403.
3- سورة 52 الطور اية 6.
4- سورة 6 الانعام آية 151.
5- سورة 2 البقرة آية 255.
6- ديوانه 1 / 203 واللسان (وأد).
7- سورة 58 المجادلة آية 6.