الآيات 33-42 من سورة عبس
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾
قوله (فإذا جاءت الصاخة) قال ابن عباس: هي القيامة. وقيل: هي النفخة الثانية التي يحيا عندها الناس. وقال الحسن: الصاخة هي التي يصيخ لها الخلق، وهي النفخة الثانية. والصاخة هي الصاكة بشدة صوتها الاذان فتصمها، صخ يصخ صيخا، فهو صاخ. وقد قلبها المضاعف باكراهه التضعيف، فقال: أصاخ يصيخ اصاخة قال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه * إصاخة الناشد للمنشد (1)
ومثله تظنيت، والأصل تظننت. ثم بين شدة أهوال ذلك اليوم فقال (يوم يفر المرء من أخيه و) من (أمه وأبيه و) من (صاحبته) التي هي زوجته في الدنيا (وبنيه) يعني أولاده الذكور نفر من هؤلاء حذرا، من مظلمة تكون عليه. وقيل: لئلا يرى ما ينزل به من الهوان والذل والعقاب. وقيل: نفر منه ضجرا به لعظم ما هو فيه. وقيل: لأنه لا يمكنه ان ينفعه بشئ ولا ينتفع منه بشئ وقوله (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) فالمراد به الذكر من الناس وتأنيثه امرأة، فالمعنى إن كل انسان مكلف مشغول بنفسه لا يلتفت إلى غيره، من صعوبة الامر وشدة أهواله. والشأن الامر العظيم، يقال: لفلان شأن من الشأن أي له أمر عظيم، وأصله الواحد من شؤون الرأس، وهو موضع الوصل من متقابلاته التي بها قوام أمره. ومعنى (يغنيه) أي يكفيه من زيادة عليه أي ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الامر الذي قد اكتنفه وملا صدره، فصار كالغني عن الشئ في أمر نفسه لا تنازع إليه. ثم قسم تعالى أحوال العصاة والمؤمنين، فقال (وجوه يومئذ مسفرة) أي مكشوفة مضيئة، فالأسفار الكشف عن ضياء من قولهم: أسفر الصبح إذا أضاء، وسفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها، ومنه السفر، لأنه يكشف عن أمور تظهر به، قال توبة الحميري:
وكنت إذا فاجأت ليلى تبرقعت * فقد رابني منها الغداة سفورها (2)
أي كشفها قناعها. وقوله (ضاحكة مستبشرة) أي من فرحها بما أعددنا لها من الثواب تكون ضاحكة مسرورة. والضحك الاستبشار وإن أضيف إلى الوجه، فالمراد به أصحاب الوجوه، فأما الاسفار والاشراف فيجوز أن يكون للوجوه خاصة بما جعل الله فيها من النور، لتفرق الملائكة بين المؤمنين والكفار. ثم قال (ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) أي يكون على تلك الوجوه غبار وجمعه غبرة (ترهقها) أي تغشاها (قترة) وهي ظلمة الدخان، ومنه قترة الصائد موضعه الذي يدخن فيه للتدفي به. ثم اخبر أن من كان على وجهه الغبرة التي تغشاها القترة (هم الكفرة) جمع كافر (الفجرة) جمع فاجر، كما أن كاتبا يجمع كتبة، وساحرا يجمع سحرة. وليس في ذلك ما يدل على مذهب الخوارج من أن من ليس بمؤمن لابد أن يكون كافرا من حيث أن الله قسم الوجوه هذين القسمين. وذلك أنه تعالى ذكر قسمين من الوجوه متقابلين، وجوه المؤمنين ووجوه الكفار، ولم يذكر وجوه الفساق من أهل الملة. ويجوز أن يكون ثم صفة أخرى بخلاف ما لهذين، بان يكون عليها غبرة لا يغشاها قترة أو يكون عليها صفرة، ولو دل ذلك على ما قالوه لوجب أن يدل قوله (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (3) على أن كل من لا يبيض وجهه من المؤمنين يجب أن يكون مرتدا، لأنه تعالى قال لهم (أكفرتم بعد إيمانكم) (4) والخوارج لا تقول ذلك، لان من المعلوم ان - ههنا - كفارا في الأصل ليسوا مرتدين عن الايمان.
1- القرطبي 19 / 222.
2- الطبري 30 / 34.
3- سورة 3 آل عمران آية 106.
4- سورة 3 آل عمران آية 106.